من دون مواربة قد يلجأ إليها من يريد التعمية على مقاصده، يعرف الجميع أن قائد الجيش العماد جوزيف عون مرشح لمنصب رئيس الجمهورية. في لبنان، يظهر من لا يرفضون هذا الترشيح قدراً ضئيلاً من الدعم العلني، وتتحدّث غالبيتهم عن عدم ممانعة، وليس عن تبنٍّ صريح. أما الرافضون فكثر، بعضهم يجهر بموقفه، ويكتم آخرون الرفض إما بالتزام الصمت أو بإعلان الدعم لمرشحين غيره. أما خارجياً، فيحظى قائد الجيش بدعم استثنائي من أبرز الدول المعنية بلبنان، خصوصاً أطراف «مجموعة باريس» (السعودية وقطر ومصر والولايات المتحدة وفرنسا). ويعمل بعض هؤلاء، منذ وقت غير قصير، على تسويقه مرشحاً للرئاسة استناداً إلى أمرين: الأول، أنه نجح في دوره على رأس المؤسسة العسكرية، والثاني أن موقعه يتيح له لعب دور أكبر في الرئاسة في مواجهة احتمالات الفوضى بسبب الانهيار الاقتصادي.
وإذ يحرص القائد على إبلاغ من يسأله بأنه ليس مرشحاً، لكنه – كما كل الراغبين – يردف بأنه لن يرفض «خدمة لبنان في أي موقع يكون فيه». وهو، منذ اندلاع أحداث تشرين الأول 2019، شكّل حوله فريقاً مساعداً، سياسياً وإعلامياً، وباشر رحلة القطع مع الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر.
منذ تولّي العماد عون منصبه، في آذار 2017، تعاقب على وزارة الدفاع كل من يعقوب الصراف والياس بو صعب وزينة عكر وموريس سليم، لم تكن علاقته على ما يرام مع أي منهم، مع إصرار القائد على التعامل مع وزير الدفاع، أياً يكن، على أنه منصب رمزي مهمته تسهيل المتطلبات الإدارية والمالية التي يحتاجها رئيس المؤسسة العسكرية.
خروقات العماد عون للقوانين ظهرت بشكل فاقع، للمرة الأولى، في حزيران 2018 عندما عقد صفقة مع الأميركيين تسلّم بموجبها لبنانيين كانوا يقاتلون في صفوف تنظيم «داعش»، اعتقلتهم القوات الأميركية شرق سوريا. عملية التسلّم تجاهلت أبسط القواعد القانونية: تم منع كل الأجهزة المعنية في مطار بيروت من الاقتراب من الطائرة العسكرية، ولم يُبلّغ الأمن العام بأسماء الركاب ليصار إلى تسجيل دخولهم البلاد، ولم يجر إعلام النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود ومفوض الحكومة في المحكمة العسكرية بالأمر، ولم تعلم عائلات المعتقلين بمصيرهم لأكثر من أربعين يوماً. ما قام به الجيش يومها لا يتعلق بمخالفة قد تفرضها اعتبارات أمنية، بل تصرف كما لو أنه لا يرى حاجة لاستئذان أحد.
قبل هذه الحادثة وبعدها، فتحت قيادة الجيش قنوات تواصل استثنائية مع الجانب الأميركي، والتزمت برنامجاً اشتمل على مناقلات وتشكيلات تراعي خطة القائد الإمساك بكل مفاصل المؤسسة، وبدء عملية «تنظيف» الجيش من كل سلاح شرقي والاعتماد كلياً على برامج تسلح أميركية، من دون أن يجد نفسه مضطراً إلى مناقشة أي عرض تسليحي آخر، ليس من الروس والإيرانيين فحسب، بل حتى من الفرنسيين. وعندما سلّمت الولايات المتحدة الجيش عدداً من المسيّرات، خضعت اليرزة لشروط منها أن تكون إدارة عمليات هذه الطائرات تحت إشراف قوة أميركية خاصة تمركزت في مطار حامات، الذي تحول مهبطاً لطائرات عسكرية أميركية، ذهاباً وإياباً، من دون أن يحق لوزير الدفاع، مثلاً، أن يسأل عمّا تحمله، كما سُمح لعدد غير قليل من المستشارين الأميركيين بـ«الإقامة» في مقر وزارة الدفاع بصورة شبه دائمة.
بعد اندلاع أحداث 17 تشرين، كان الجيش في موقف صعب، نظرياً. فهو لم يكن ليقف بوجه الناس، لكنه لم يكن أيضاً ليقف بوجه المجموعات التي ترعاها الولايات المتحدة. وعندما كان يتدخل لفتح طرقات، كان ذلك يجري تحت إما بضغط من السلطة السياسية أو الأهالي، أو حتى من قيادات داخل الجيش نفسه. يومها، أقنع الفريق السياسي والإعلامي المحيط بعون بأن فرصة الأخير اقتربت، وأن عليه اتخاذ الموقف الذي يؤهله سريعاً ليكون المنقذ الذي ينتظره الشعب، لتنطلق من يومها المعركة الرئاسية لقائد الجيش.
مذذاك، عمل قائد الجيش وفريقه على خلق توازن جديد في البلاد. قطع العلاقة نهائياً مع التيار الوطني ورئيسه جبران باسيل، وحفظ بعض الود للرئيس عون، ونسق مع حزب الله كي لا يقع إشكال غير متوقع، وأعاد تنظيم علاقاته مع الجميع، فلم تعد هناك مشكلة مع القوات اللبنانية أو الحزب التقدمي الاشتراكي أو تيار المستقبل أو قوى المجتمع المدني، ولم نعد نسمع عن الدولة الأمنية والبوليسية في الإعلام المموّل من الغرب وأتباعه. مع ذلك واصل الأميركيون والسعوديون الضغط لإبعاد هذا الضابط، أو منع تشكيل هذه المجموعة العسكرية أو تلك، والحجة الدائمة هي الاشتباه بعلاقة هؤلاء بحزب الله. وأعدّت أجهزة أمنية رسمية تديرها قوى خليجية ملفات عن أشخاص قالت إنهم من حزب الله يحاولون التغلغل داخل الجيش، وصولاً إلى ما تردّد أخيراً عن طلب الأميركيين استثناء عدد غير قليل من العسكريين والضباط من المنحة المالية التي قدّمتها الولايات المتحدة للجيش بحجة أنهم محسوبون على بيئة حزب الله.
الإشكالية الأكبر برزت عندما ارتضى قائد الجيش تحوّل الدعم الخارجي العيني للجيش إلى دعم مالي على شكل دولارات نقدية. بدأت الفضيحة عندما وافق مصرف لبنان على فتح حساب خاص لقيادة الجيش بالدولار الأميركي لدعم المؤسسة العسكرية، ليتبين لاحقاً تلقّي الصندوق عشرات ملايين الدولارات من الولايات المتحدة على دفعات، إضافة إلى عشرات الملايين التي أتت من قطر ومن أطراف أخرى. وقد تولّى قائد الجيش أخذ الأمور على عاتقه، فلم يكلف نفسه عناء التشاور مع وزراء الدفاع المتعاقبين، ولم يأخذ بتوصية مستشارين قانونيين بضرورة الحصول على موافقة مجلس الوزراء قبل قبول هذه الهبات، لا بل طلب من الأميركيين إسكات المحتجّين، وهو ما تولت السفيرة دوروثي شيا القيام به، فأبلغت كل وزير دفاع، وكل مسؤول حكومي، وكل نائب أو صديق للسفارة، جواباً واحداً: «هذه أموال موضوعة بتصرف قائد الجيش حصراً، وهو حر في التصرف بها، ولنا طريقتنا في التثبت من صرفها لزيادة رواتب العسكريين».
سُمح لعدد غير قليل من المستشارين الأميركيين بـ«الإقامة» في مقر وزارة الدفاع بصورة شبه دائمة
ثمة أمور كثيرة لم نتطرق إليها. لكن بات على قائد الجيش ومن معه في قيادة المؤسسة، وعلى داعميه من اللبنانيين لمنصب الرئاسة، الإجابة على الأسئلة الآتية:
أي مرشح تريدونه رئيساً، وهو يخالف أبسط القوانين ويفتح المؤسسة العسكرية، وهي رمز السيادة الوطنية، لطرف يعادي أكثر من نصف اللبنانيين؟
أي مرشح تريدونه رئيساً، وهو لا يأبه لكل السلطات القائمة في البلاد من قصر جمهوري إلى سراي حكومي إلى مجلس نيابي؟
أي مرشح تريدونه رئيساً، وهو يقبل بأن يتحول الجيش إلى «منظمة غير حكومية» تتلقى تمويلها من دولة خارجية، من دون رقابة من أي جهة رسمية، ويتم إيصال الأموال إلى العسكريين عن طريق البريد المالي بعد حصول المانح على كل الداتا التي تخص العسكريين؟
أي مرشح تريدونه رئيساً، وهو يجعل «التسول» عنواناً مركزياً للحفاظ على ولاء العسكريين، حتى ولو قيل إن الجيش متعب ويحتاج إلى دعم، فلماذا لا يتم الأمر بطريقة رسمية، وهل المطلوب أن يتحول ولاء العسكريين من الوطن إلى شخص أو جهة؟
أي مرشح تريدونه رئيساً، وأنتم تعرفون، أنه متى وصل إلى القصر الجمهوري سيكون عنواناً للانقسام، مسيحياً ثم وطنياً، ولن يكون قادراً، تحت أي ظرف، على ممارسة أي نفوذ على الجيش الذي بات له إطاره الخاص. علماً أنه في كل مرة تحاول جهة أو سلطة ما استخدام الجيش في معركتها الداخلية، تعرّض الجيش للانقسام. وهو أمر سهل يمكن أن يحصل خلال أيام فقط!
بهذا المعنى، تجب مناقشة قائد الجيش، وسؤاله، بوصفه مسؤولاً ومرشحاً لرئاسة الجمهورية، ليكون الجواب واضحاً ومفيداً قبل فوات الأوان!
من ملف : القائد يبيع السلاح: من يحوّل الجيش إلى منظمة غير حكومية؟