هل سلك قائد الجيش العماد جوزف عون «الخط العسكري» للانتساب رسمياً الى نادي مرشحي رئاسة الجمهورية ام ان هذا الاجتهاد ليس في محله، ويعكس تفسيراً خاطئاً لدلالات «عملية الكوماندوس» التي نفذها قبل أيام خلف خطوط السلطة السياسية؟
على رغم انّ الجمهورية تبدو في مهب الريح تحت وطأة الانهيار المتواصل، وعلى رغم انه لا تزال هناك نحو سنة وثمانية اشهر من ولاية الرئيس ميشال عون، إلا أنّ طيف الانتخابات المقبلة لرئاسة الجمهورية بدأ يتسلل شيئا فشيئا الى الحسابات السياسية والنيات المضمرة، وصارت مواقف البعض تُربط تلقائيا بهذا الاستحقاق بمعزل عن صوابية الربط من عدمها.
وضمن هذا السياق، هناك من ذهب إلى وضع الخطاب الاخير لقائد الجيش العماد جوزف عون أمام كبار الضباط قبل ايام في خانة التمهيد لحجز مقعد متقدم له في نادي المرشحين الرئاسيين، لا سيما ان جسم قادة الجيش «لبّيس» في طبيعته، بحيث ان كل من يصل إلى اليرزة هو «متهم» بأنه يضع عينه على بعبدا حتى تثبت براءته.
وما يعزز هذا الانطباع هو ان معظم رؤساء الجمهورية بعد اتفاق الطائف أتوا من المؤسسة العسكرية، الأمر الذي دفع اكثر من صوت الى المطالبة باستحداث قيود قانونية تمنع قائد الجيش وحاكم مصرف لبنان من الترشح الى الرئاسة خلال فترة وجودهما في الوظيفة، حتى لا تتضارب المصلحة الشخصية مع تلك العامة.
يحاول جوزف عون من جهته التحرك فوق حافة رفيعة من التوازنات الدقيقة التي لا تتحمل دعسة ناقصة، فهو اراد ان ينحاز الى وجع الناس والعسكر من دون أن يواجه مباشرة رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو منفتح على الأميركيين ومتحمس لتعزيز التعاون معهم في المجال العسكري من دون أن يقفل الأبواب على «حزب الله» او ينزلق الى خلاف معه، علماً ان عون كان يخدم، قبل وصوله الى قيادة الجيش، في منطقة بعلبك – الهرمل حيث تعرّف عن قرب الى بيئة الحزب وخصوصياتها.
ولعل ما يعكس سعي قائد الجيش الى مراعاة هذه التوازنات المرهفة، معلومات تفيد بأنّ تواصلاً حصل بينه وبين «حزب الله» في الأيام الماضية، فيما استقبل امس قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي.
ولكن، ألا تنطبق «شبهة» الطموح الرئاسي على العماد جوزف عون ربطاً بسلوكه في هذه المرحلة و»انتفاضته» التي أوحت بأنه يطرح اسمه بديلا عن الطبقة السياسية؟
لدى المعترضين على نهجه اقتناع تام بأنّ الرجل باشر خوض معركته الرئاسية معتمدا استراتيجية «القضم»، وان ما يفعله حالياً يندرج في إطار مناورات بالذخيرة الحية لتحسين موقعه وفرصه، مستفيدا من النقمة المتزايدة في الداخل والخارج على الطبقة الحاكمة وامتداداتها ليعزز اسهمه كخيار مضاد لها.
في المقابل، تؤكد شخصية قريبة منه أنه لم يضمر كلياً عبر اطلالته الاخيرة تقديم نفسه مرشحا الى الرئاسة، وذلك للاعتبارات الآتية:
– من المبكر اساساً البحث في الانتخابات الرئاسية منذ الآن، خصوصاً ان اتجاهاتها تتوقف، كما تُبين كل التجارب، على الظروف المحلية والاقليمية التي تكون سائدة في حينه، وبالتالي لا يمكن لمن لديه حد أدنى من الحس السياسي السليم ان ينزلق في هذا التوقيت الى حسابات مغلوطة، بينما الفترة الفاصلة عن موعد الاستحقاق لا تزال مشرّعة على احتمالات شتى من شأنها ان تخلط الأوراق مرات كثيرة قبل أن تتكشف ملامح الورقة الرابحة.
– الاولوية القصوى في هذه المرحلة هي لبقاء الجمهورية وصمودها حتى يكون في الإمكان إجراء انتخابات رئاسية وتداول السلطة.
– ان الرئاسة في حد ذاتها ليست هاجساً لدى جوزف عون وهو غير «متهافت» عليها خلافاً للإتهامات التي يوجهها اليه هذا أو ذاك.
– ان قائد الجيش حريص على حماية علاقته مع الرئيس ميشال عون وعدم وضعها تحت تأثير ذبذبات الاستحقاق الرئاسي المقبل.
ويُنقل عن العماد عون انزعاجه من الانطباعات السائدة حول «زعل» رئيس الجمهورية منه ووجود توتر في علاقتهما، مؤكدا انه من اهل الوفاء ولا يمكن أن يتنكّر لِما فعله ميشال عون الذي انتقاه لتولي قيادة الجيش من بين خيارات عدة كانت مطروحة امامه، علماً انّ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل لم يكن مؤيّداً لتعيينه، وهذا ما انعكس فتوراً بين الاثنين.
أكثر من ذلك، يُنقل عن قائد الجيش انه ينظر إلى الرئيس ميشال عون كأب له وليس فقط كرئيس للجمهورية.
ولكن، ألم يكن من الأفضل لو بقي كلامه الاخير ضمن جدران المؤسسة العسكرية وفي إطار توجيه داخلي للضباط والجنود، بدل ان يتم نقله عبر وسائل الإعلام ويصبح مادة للتجاذب؟
يشير المطلعون على دوافع صرخة عون الى انّ سبب هذا الاستثناء في تظهير الموقف انما يعود إلى كون الوضع بمجمله بات استثنائيا تحت وطأة الفقر الذي يلاحق المواطن والعسكري على حد سواء، وبالتالي كان لا بد من إحداث صدمة سعياً الى لجم وتيرة الانحدار، إضافة إلى أن الجيش عزّز عبر خطاب قائده الكاسِر للمألوف ثقة الناس فيه، الأمر الذي من شأنه ان يمنع أي صدام في الشارع ويسهل فتح الطرقات كما حصل لاحقا حين صدر قرار فتحها، وفق تفسير القريبين من اليرزة.
وما لم يتنبّه اليه الكثر، وفق هؤلاء، هو انّ عون لفت اثناء كلامه الى تقيّد الجيش بالمواثيق الدولية، في إشارة ضمنية الى المادة الخامسة من الميثاق الدولي الذي يمنع منعا باتا قطع الطرقات، «محاولا التوفيق بين تفهّمه لحساسية رئيس الجمهورية حيال إقفال الشوارع وبين ابداء تعاطفه مع غضب الناس والعسكريين ونقمتهم على السلطة السياسية التي أوصلتهم الى الإقامة على خط الفقر وما دونه».