على أبواب السنة الثالثة من الفراغ الرئاسي، تعود الإشكالية حول قيادة الجيش إلى الواجهة. وسط سحب الكلام عن العماد جوزف عون مرشحاً رئاسياً، كيف ستتعامل القوى المارونية مع احتمالات الفراغ في منصب آخر من المناصب الأولى؟
منذ توقّف تحرك اللجنة الخماسية، وتفرملت مهمة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، لم يعد اسم قائد الجيش العماد جوزف عون قيد التداول في لائحة المرشحين الذين لا بد منهم. مع التمديد له قبل أشهر، بدا وكأن الصفقة تقف عند حدود مقر قيادة الجيش في اليرزة، من دون أن تصل إلى محيط قصر بعبدا. اليوم، فإن كل ما أحاط بإخراج تسوية امتحانات المدرسة الحربية، يجعل الأمور أكثر مدعاة للتساؤل.ثمة اقتناع لدى قوى سياسية بأن مشكلة المرسوم المتعلق برئيس الأركان حسان عودة ستُحلّ بالطريقة نفسها التي حُلت فيها مشكلة دورة المدرسة الحربية. ومغزى الموافقة على ذلك معروف، أي سحب التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون من التداول، بعدما كانت ذريعة التمديد له وإبقاؤه في السباق الرئاسي، عدم وجود من يحل محله إذا اضطر إلى الغياب أو السفر. ولا يمكن أن تسلك هذه التسوية طريقها إلا إذا وافق التيار الوطني الحر على ذلك. ومعارضو رئيس التيار يرون أنه لا بد أنه سيوافق لأنه يحقق بذلك رغبته في إزالة عقبة بقاء عون مرشحاً رئاسياً. وحين تصاغ التسوية حول عودة، يصبح من السهل المساومة على عدم التمديد لقائد الجيش، مهما كان شكل الإخراج المعتمد، علماً أن من بين المتخوفين من هذا المسلك من يعتبر أن حزب الله قد تكون له مصلحة في هذا الإخراج، على المدى البعيد، طالما أن أي تغير جوهري لن يطرأ على علاقة الحزب بالجيش، وطالما أن أي تسوية سياسية لاحقة ستكون شاملة بحيث يعاد توزيع الحصص السياسية والأمنية والعسكرية بين الكتل الأساسية. كما أن للحزب مصلحة في مراضاة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، في ظل مواقفه من حرب غزة، متفرداً عن غيره من القوى السياسية.
تساؤلات جدية حول التغطية الخارجية لبقاء قائد الجيش في موقعه
لكنّ القضية لا تقف عند حدود إبقاء عون مرشحاً أو لا من خلال التمديد له، إذ ثمة تساؤلات جدية حول التغطية الخارجية لبقاء قائد الجيش في موقعه أولاً، ومرشحاً ثانياً، علماً أن قطر التي كانت أول المتحمّسين له، كانت أيضاً أول المتلمّسين بأن اسمه لم يعد مطروحاً بقوة، فذهبت إلى خيار ثان، ولو بتزكية من التيار الوطني، هو المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري الذي فُرمل أيضاً برفض أميركي مطلق يتجدد كل مرة يُفتح فيها هذا النقاش. مع ذلك، يُسجل أن قطر لم تعد تخوض معركة قائد الجيش كما كان يُتوقع، خصوصاً بعد مرحلة وقوف الدوحة إلى جانب الجيش ومدّه بالمساعدات المالية. وفي واشنطن الأمر نفسه، إذ لم تقم بأي جهد في معركة التمديد لقائد الجيش لإبقائه مرشحاً. الخيار الأميركي بالحفاظ على المؤسسة العسكرية، كان محصوراً بتأمين الاستمرارية القيادية فيها. ووجود رئيس أركان يمارس مهامه في شكل قانوني، ويبني علاقة جيدة معها منذ زمن، يعني أن واشنطن لن تكون في وارد الممانعة. وتجربة حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري خير دليل على ذلك. والأميركيون، وكذلك المسؤولون في لبنان، يدركون أن واشنطن لن تخوض معركة قائد جيش أصيل وحاكم مصرف أصيل «لكونهما موقعين مارونيين»، ما دام الطرفان المعنيان ينسقان تماماً معها ويحتاجان إلى التعامل معها بإيجابية مطلقة. والتركيز على فكرة التنسيق الدائم بين الجيش والأميركيين رواية معمّمة على كل قائد للجيش وليست حصراً بشخص وحيد، كما دلّت التجارب السابقة. وفرنسا بدورها، قبل أن تغرق في همومها الداخلية وتنصرف عن لبنان، لم تخض معركة عون مرشحاً أولَ، من دون أن تتخطاه كقائد للجيش، ولا سيما أنه لم يترك لدى معنيين فيها انطباعات مؤثّرة وفاعلة.
والقضية أيضا لم تعد محصورة بإبقاء عون مرشحاً رئاسياً، لأن عدم التمديد له، بغضّ النظر عن شخصه، سيطرح مجدداً إشكالية عند القوى المارونية السياسية التي «تحتفل» قريباً ببدء سنة ثالثة من الفراغ الرئاسي، مع ثلاثة مواقع مارونية شاغرة، وكيف يمكن أن تقارب هذه الفراغات المتتالية كما غيرها في إدارات فاعلة.
صحيح أن الأنظار اليوم تتوجه نحو العنوان الأكبر جنوباً، لكن ثمة استحقاقات داخلية تتعامل معها هذه القوى «على القطعة» في تدوير الزوايا، إن بالمشاركة في جلسات تشريع نيابية أو في تغطية جلسات مجلس الوزراء، ما يعني أن هناك إمكانات لا تزال مفتوحة للتعامل مع القضايا الداخلية من خلال إطار واسع يأخذ في الاعتبار الأزمة السياسية في شكلها العام. ومعركة التمديد لقائد الجيش قد تأخذ هذه المرة أبعاداً مختلفة عن السابق، وسط متغيّرات تفرض التعامل معها حتى داخل الكتل النيابية نفسها في النظرة إلى الجيش وقائده، كما لدى التيار الوطني مثلاً. لكن العنوان الأساسي الذي تتظلّل تحته هذه القوى أنها مرة أخرى مضطرة إلى التعامل مع استحقاق الفراغ في قيادة الجيش، من خلال النظرة الشاملة إلى تسوية كبرى، لن تظهر نتائجها قبل الانتخابات الأميركية.