كيفما تنقّلتَ في منزل جوزف صادر في مغدوشة، تلمَح صوَره متداخلةً مع صوَر السيّد يسوع المسيح وأمّه مريم والقدّيسَين شربل وريتا.
لا يختلف اثنان على أنّ القدّيسين يعرفون مصيرَ المهندس في شركة طيران الشرق الأوسط، إبن مغدوشة الذي خُطِفَ عند مدخل المطار صباح 12 شباط 2009. لكنّ عائلته المؤلّفة من زوجته سلمى صادر، وأولاده الأربعة، وجميع أقربائه وأهل قريته لم يهضموا خطفَ ابنهم واختفاءَه منذ ذلك الحين.
في موازاة ذلك، لم تُثمِر تحرّكات صديقه النائب ميشال موسى ولا مبادرات راعي أبرشيّة صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك المطران إيلي حداد، ولم تؤَدِّ إلى أيّ نتيجة، بل باءَت بالفشل، وبقيَ مصير صادر مجهولاً.
«متّهَم» بلا إثبات
ستة أعوام مرّت، لم تسمَع فيها الزوجة أيّ خبر عن زوجها، تتحدّث بقهر عن اللامبالاة التي تتعاطى فيها الدولة مع هذه القضية، حتى إنّها لم تتلقَّ أيّ طلب من تحَرٍّ لتفتيش المنزل، بل هي طلبَت بإلحاح من المخابرات تفتيشَ مكتبِه في المطار إلّا أنّها لم تجد شيئاً!
إنتظرَت الأم المنهمكة في تربية أولادها أن يطلّ عليها أحد ليطالبها بالمال أو أيّ فدية أو أن تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن الخطف وأهدافه. إنتظرَت شهرين… ستة أشهر…عامَين، وها قد مرّت ستة أعوام، وسيبلغ جوزف في نيسان المقبل 62 عاماً ولا يزال مفقوداً.
عبثيّة الخطف الذي تعرّضَ له أدّى إلى تكهّنات وتأويلات عدة، ربما أكثرها شيوعاً احتمالُ تورّط «حزب الله» في العمليّة، ويقول أصحاب هذه النظريّة إنّ صادر خُطِفَ في الدائرة التي تقع تحت نفوذ «الحزب».
وجدَت عائلة صادر نفسَها أمام هذه التساؤلات في البدايات، لذلك سعَت زوجتُه مع المطران حداد وموسى الذي تربطه صلة قربى بزوجة جوزف، إلى الاتّصال بـ«حزب الله».
وتلفتُ الزوجة إلى أنّه كان متعاوناً، وقد وصلت إلى مسؤول الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا الذي سألها: «أين تقيمون يا سيّدتي؟»، فأجابته: «في مغدوشة»، فقال: «ألا أستطيع أن أحضِرَ جوزف من مغدوشة.
ألا أستطيع أن أتّصل به وأدعوه إلى مركز لنا؟ لماذا أخطفه على طريق المطار؛ المنطقة التي يزعم الجميع أنّها خاضعة لـ»حزب الله»، ما دمتُ أستطيع جلبَه من دون هذا الضجيج ومن دون عمليّة أمنية تضعني في دائرة الاتّهام؟».
لم تكتفِ سلمى والمطران حداد باتّصال واحد بـ»حزب الله»، إذ اعتبرا أنّه متّهَم حتى إثبات العكس، والتقيَا رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، وكان الجواب دائماً: «إنّ الحزبَ قادرٌ على جلب جوزف من دون استخدام هذه الطريقة».
رأى المطران حدّاد هذا الجواب منطقياً، «لأنّ «الحزب» سبقَ أن أوقفَ بعض الأشخاص المتعاملين مع إسرائيل وحقّق معهم ثمّ سَلّمهم إلى الجيش اللبناني، فلماذا يُبقي على صادر فقط؟».
كذلك، اعتبرَت سلمى صادر كلامَ صفا منطقياً، في حين لامت الدولة التي تقبض أحياناً على «مطلوب» في جرود الهرمل، «فيما تعجز عن العثور على شخص خُطِفَ في وضَح النهار على طريق المطار!». وتتأسّف لأنّ «الدولة بعدما أحالت الجريمة إلى المجلس العدلي، لم تُمسِك بأيّ دليل على الجهة التي خطفَت جوزف، ولا المكان الذي يُحتجز فيه، على رغم أنّه خُطِفَ بعد 19 عاماً على انتهاء الحرب».
في بداية القضية، أمسَك المطران حدّاد ببعض الخيوط من خلال اتّصالات زعمَ أصحابُها بأنّهم مرجعيات دينيّة إسلاميّة، وأكّدوا له أنّ جوزف صادر ما زال حيّاً، مبرّرين خطفَه بأنّ علاقات تربطه بشبكات تجَسّس إسرائيليّة.
ربّما استبشَر المطران حداد والعائلة خيراً بهذه الاتصالات، لكن سرعان ما انكشفَت غاياتها، إذ لم تكن سوى عمليات ابتزاز لكسب المال لا أكثر ولا أقلّ. ويؤكّد حداد أن لا صحّة لهذه المعلومات التي تساهم في تضليل الرأي العام.
تثقُ سلمى بزوجها وتتحدّث عنه بحَسرة: «كان رجلاً قويّاً، أي إنّه يتمتّع بشخصية قوية وكَتوم، وقد زاد من قِلّة كلامه طبيعةُ عمله على الكومبيوتر. وكانت حياته مبرمَجةً مثل الكومبيوتر، من البيت إلى العمل، والعكس.
شخصيته عقلانيّة، أي يعمل بعقلِه أكثر من عاطفته، ويتميّز بأنّه عمَليّ جداً». لم تكن سلمى تعرف شيئاً عن طبيعة عمل زوجها في شركة طيران الشرق الأوسط، سوى أنّه Director of IT، وتتساءَل: «هل تتضمّن هذه المهنة أسراراً خطيرة؟ لا أعرف، لكن كلّ ما يمكنني قوله إنّني لم أشعر مرّةً أنّ جوزف مربَك أو غاضِب أو متوتّر».
وتضيف: «إذا ارتكبَ أيّ جرم أو خطأ، جميعُنا تحت القانون، فليحاسَب عليه، وإذا كان عميلاً إسرائيلياً، فليأخذوه إلى السجن، لكن أن «تنشَقّ الأرض وتبتلعَه» فهذا أمرٌ غير مقبول».
أكثر من مرة تكلّمَت العائلة عن جوزف الذي نأى بنفسه عن كلّ الأحزاب والتيارات السياسيّة، وكان يردّد دائماً: «أنا لا أحبّ السياسة هنا، والسياسيون يضحكون على الناس».
فالرجل عاشَ مع زوجته لعامَين في الولايات المتّحدة الأميركية ثمّ قرّر العودة إلى لبنان، وحصلَ على جواز السفر الأوسترالي، لكن سرعان ما خسرَه وعائلته بسبب رفضِه السفر والإقامة في أوستراليا، وبعدها باع منزله في زوق مكايل، وانتقلَ إلى العيش في قريته مغدوشة التي كان يعشقها.
الحَلّ بالهجرة؟
ضاقت الخيارات أمام عائلة جوزف صادر التي بدأت تفكّر جدّياً بالهجرة. قد يكون الزمن جعلها تتأقلم بحزنٍ مع غياب جوزف، إلّا أنّها لم تفقد الأمل، على رغم أنّ بعض الأمور تَغَيّرت، وبعضها الآخر ربّما سيُحزِن جوزف صادر، إذ إنّ والدته قد توفّيَت منذ عامين.
النائب ميشال موسى كان من أوائل الشخصيات السياسية التي بادرَت إلى السعي لدى الأجهزة الرسميّة بهدف كشفِ أيّ دليل يقود إلى فكّ لغز اختفاء جوزف صادر، وقد رافقَ العائلة في كلّ المراحل، واطّلعَ في بداية عمليّة الخطف على شهادة أحد الشهود العيان الذي روى للمحقّقين ما حصل. لكنّ موسى يؤكّد أنّ أيّ عامل جديد لم يظهر، سوى تلك الشهادة.
من جهتِه، لم يبخل المطران حداد بأيّ جهد للتوصّل إلى ما يُثلِج قلبَ العائلة المفجوعة، وهو لا يفوّت مناسبةً إلّا ويسأل عن مصير جوزف محاوِلاً إبقاءَ القضية حيّةً في وجدان المسؤولين والرأي العام.
ويقول: «المشكلة أنّ قضية خطف جوزف حصَلت خلال أيامٍ يُفترَض أنّها أيّام مستقرّة لا أسباب فيها تستدعي الخطف، ولو كنّا في أيام الحرب لكان استرجاعُه أسهل بكثير، لأنّ كلّ عمليّةِ خطف كانت تقابلها عمليّة خطف مضادة، فيتمّ التبادل. أمّا اليوم فقد أصبح الوضع أصعب».
يرفض المطران حداد فكرة أن تكون قد تمّت تصفية جوزف صادر، «على رغم أنّ احتمال تعرّضِه لنكسة صحّية وارد بسبب سِنّه»، إلّا أنّه يَعِد بإبقاء القضيّة حيّةً في وجدان الرأي العام، و»لا يجوز غير ذلك، ونُصِرّ على الخاطفين بالإفراج عن جوزف فوراً».
يُقال إنّ الجمرة لا تكوي إلّا مكانَها، لذلك تعبَت سلمى من التحرّكات العبَثيّة، لأنّ زوجَها ليس معتقَلاً لدى تنظيم أو جيش معلن، إلّا أنّ القضية تحوّلت إلى ما يشبه الأحجية والطلاسم في بلدٍ تكثر فيه المشاكل الأمنية المبهَمة.
المنطقة أمام عشر سنوات من النزاع
غسان جواد
أمام لبنان والمنطقة أسابيع قليلة حتى يتّضحَ مستقبل المشهد السياسي، والنظام الإقليمي المنتظر. الموعد في نهايات آذار المقبل حيث من المتوقّع خروج إيران مع مجموعة (5+1) باتّفاق مبدئي. وفي حال لم يحصل هذا الاتفاق، فإنّ الأمور ستأخذ طابعاً تصعيدياً.
يَروي ديبلوماسي أوروبي لعدد من زائريه، أنّ الاتفاق بين إيران والغرب كان على وشَك الإنجاز في جولة المفاوضات السابقة، وأنّ الأجواء في مسقط كانت أكثر من ممتازة، ولكنّ خطباً أميركياً ما، أدّى إلى تأخير التوقيع وتمديد التفاوض عسى أن يخرج الجميع بمكاسب.
الأسباب الاميركية، بحسب هذا الديبلوماسي، كانت داخلية متعلقة بضغوط لوبيات النفط والسلاح التي تتعرّض لها الولايات المتحدة. وهؤلاء لديهم رؤية «حربية» للعلاقة مع إيران ولكلّ ما يخصّ الشرق الأوسط.
وقد استجابت الإدارة الأميركية موَقّتاً، حتى تحاولَ تمرير الاتفاق في ربع الساعة الأخير قبل نهاية ولاية الرئيس باراك أوباما الثانية. وبهذا يكون الرئيس الأميركي قد أنهى عهدَه بحلّ مشكلة تاريخية بين إيران والولايات المتحدة عمرُها عقود. وبالطبع سينعكس ذلك على وضعية الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وما يليها من انتخابات متعلقة بمجلسَي النواب والشيوخ.
يشير الديبلوماسي عينُه إلى خلاف داخل الإدارة الحاليّة أيضاً. فالرئيس ومعه نائبه ومستشارو الأمن القومي يميلون إلى عَقد اتّفاق قبل نهاية الولاية، ولكنَّ وزارة الخارجية بشخص الوزير جون كيري تُعارض «الإسراع» في «الاعتراف بإيران قوّةً نوويّة وذات نفوذ في الشرق الأوسط»، وتُحيل موقفَها إلى الضغوط التي تمارسها إسرائيل والسعودية وتركيا لمنع حدوث تفاهم إيراني – غربي. ويُعبّر موظّفو الخارجية الأميركية عن هذا قائلين: «الاتفاق مع إيران يعني تركَ حلفائنا بلا غطاء أمام التهديد الإيراني المتنامي».
ويضيف: «في الخارجية الأميركية يحاولون تركَ هذا الملف عالقاً إلى أن تأتي إدارة أميركية جديدة»، ويعلّق على هذا قائلاً: «ماذا لو جاءت إدارة محافظة جمهورية؟ هل سيعاود التفاوض من نقطة الصفر».
الأوروبّيون بحسب هذا الديبلوماسي، لديهم مصلحة في الاتفاق ورفعِ العقوبات عن إيران. ويقول إنّ ثمّة إجماعاً في الاتّحاد الأوروبي على هذا الموقف باستثناء الموقف الفرنسي المستغرَب حتى داخل فرنسا.
فالشركات الأوروبية بدأت تفتتح مكاتب مختصة في السوق الإيرانية، ومِن المتوقع أن تكون سوقاً مزدهرة أمام هذه الشركات بعد عقود من القطيعة. «الإيرانيون عطشَى لكلّ شيء، ونحن وهُم لدينا مصالح اقتصادية هائلة على قاعدة العَرض والطلب».
توقيع الاتّفاق من شأنه أن يتركَ أثراً على الواقع الإقليمي والأزمات الممتدّة من العراق إلى اليمن مروراً بسوريا. منطق الأمور يشير إلى ذلك. أمّا إذا لم يتمّ التفاهم، فسيعود كلّ طرف إلى معادلة تجميع أوراق القوّة والضغط من خارج أطُر التفاوض، ما يعني أنّ المنطقة ستدخل جولات جديدة من النزاع والصدام قبل أيّ عملية تفاوض جديدة، وهذا أمرٌ باتَ يَعرفه الجميع وتدركه واشنطن قبل غيرها.
الحديث مع الديبلوماسي الأوروبي تشَعَّب، ليشملَ معظم الأمور. والبارز كان تركيزه على أهمّية التفاهم مع إيران، وتطمين السعودية وإسرائيل، والشروع بالبحث جدّياً في مكافحة الإرهاب. وهذا الملف بلا شك نقطة تقاطع بين كلّ الدوَل المهتمّة بالأمن والاستقرار في الإقليم والعالم.