قبل عقد بالتمام غادرنا جوزيف سماحة، الصديق الأعزّ والزميل الاستثنائيّ وصاحب الرأي الإشكاليّ. وفي أواسط هذا العقد نفسه اندلعت الثورات العربيّة. كثيرون تساءلوا وما زالوا، وهم يفرزون مواقف أصحاب المواقف: لو كان جوزيف حيّاً، أيّ موقف كان ليتّخذه من الثورات، ومن الثورة السوريّة خصوصاً؟
النيابة عن غائب مستحيلة طبعاً. لكنّ سماحة الذي كتب بلا انقطاع، على مدى ثلث قرن، في «السفير» و «الحرّيّة» و «اليوم السابع» و «الحياة» و «الأخبار»، ترك لنا ما يسمح باستحضاره. وهو طبعاً سيكون استحضاراً جزئيّاً ومشروطاً لأنّه، ككلّ شخص يفكّر، كان يحتار ويتردّد، وأحياناً يفاجىء بعد أن يفاجىء نفسه. وهو كان حسّاساً حيال أحوال الدنيا وتقلّباتها، ويقظاً على أنّ الحقوق لا تنتصر بذاتها، وأنّ ثمّة أعمالاً قد تنصرها وأخرى قد تودعها المتحف. حتّى في ثوابته، إذا كان هناك مطلق شيءٍ اسمه ثوابت، كان جوزيف يكره القشور: فأن تكون الأولويّة للصراع مع إسرائيل، كما كانت عنده، فهذا أعمق من أن لا تصافح إسرائيليّاً أو تخاطبه. وحين يلوح أمل باستعادة لبنان أرضه المحتلّة، بنتيجة التفاوض، يذهب سماحة إلى إسرائيل في عداد وفد إعلاميّ لبنانيّ.
وهذا كله يجعل استحضار رأيه في الثورات أصعب.
فبعض أصدقائه وتلاميذه انحازوا إليها، وبعضهم انحازوا ضدّها، إلى نظام الأسد. وهو بدوره حمل من القناعات ما كان يوصل إلى تأييد الثورة، كما حمل منها ما يوصل إلى التحفّظ عنها.
لكنّ ما تشهد عليه خصوصاً مقالاته في «اليوم السابع» الباريسيّة، أنّه كان شديد الكراهية للأنظمة القائمة، لا سيّما النظام السوريّ، وإن نبع الموقف هذا من مقدّمات فلسطينيّة أكثر منها سوريّة أو لبنانيّة.
في الحالات كافّة، حرمته الكراهية هذه من أن يحضر دفن والدته في بيروت. وحين هبطتْ، بفعل خطأ ما، طائرة في تلّ أبيب تقلّ السيّد عبدالله الأحمر، أحد قياديّي البعث الحاكم في دمشق، أعاد الإسرائيليّون الأحمر إلى بلده وسلطته. يومذاك علّق جوزيف بما معناه أنّ إعادة الأحمر هديّة مسمومة أخرى من إسرائيل إلى الشعب السوريّ. ولمقالات كثيرة من صنف هذا المقال، لم تكن عودته إلى لبنان وإلى جريدة «السفير» سهلة. لقد استدعى الأمر طلب إذن خاصّ من دمشق.
في المقابل، وبعد توقيع «أوسلو»، لاح له «حزب الله» الطرف الذي يبقي الصراع قائماً مع إسرائيل، إذ المهمّ أن يبقى الصراع هذا قائماً! وما دام النظام السوريّ يدعم «حزب الله»، فلا حول ولا… وكان جوزيف، ولو بتحفّظات كثيرة، جزءاً من الصفّ المناهض للحريري وحلفائه: فالأخير، قبل أن يكون نيو- ليبراليّاً، رمز لمشروع سلام إقليميّ ينهي الصراع مع الدولة العبريّة. وتبعاً لتقليد عقائديّ شهير وخطير، كان يُغضّ النظر حتّى عن القتل في سبيل القضيّة!
لكنّ تلك المقاومة هي التي ألغت نفسها بنفسها مع قيام الثورة السوريّة. لقد اختارت أن تتفرّغ للقتال ما بين القصير جنوباً وحلب شمالاً. أمّا الروايات التي رافقت هذا الإلغاء، من حماية السيّدة زينب إلى مكافحة «داعش»، فكانت لا تقنع إلاّ الدجاج. وأمّا النفخ في ثلاث سنوات «داعشيّة» بحيث تحجب 54 سنة بعثيّة و47 سنة أسديّة، فيعامل حتّى الدجاج على أنّها صيصان.
هذا لا يعني، بالضرورة، أنّ جوزيف سماحة كان سيتحوّل نصيراً للثورة السوريّة. المزيج الذي كانه، جامعاً جمال عبدالناصر وياسين الحافظ إلى ماركس الشابّ ولينين و «الشيوعيّة الأوروبيّة»، فضلاً عن أولويّة الصراع مع إسرائيل، ربّما أجفلته الثورات العربيّة غير المحسوبة، وربّما تكشّف المزيج نفسه عن محدوديّته كأداة في التوقّع والتموضع. وربّما انكفأ جوزيف على مراجعة قد تقدّم إجابات وتضيء طرقاً معتمة، منكبّاً في تلك الغضون على مهنيّته كصحافيّ لامع ودؤوب، صحافيٍّ لا يقلّ شغفه بالصحافة عن شغفه بالسياسة.
لكنّ شيئاً واحداً لا يرقى إليه الشكّ، هو أنّ سماحة، النبيل والمحترم، ما كان ليقف إلى جانب مارين لوبن حارساً على بوّابة مسلخ بشريّ في صيدنايا. لهذا يعيش الاختلاف معه طويلاً، وتعيش صداقته وذكراه زمناً أطول.