في مثل هذا اليوم قبل تسعة أعوام، رحل جوزف سماحة، وترك لنا «الأخبار». مرّت السنوات بلمح البصر، في خضمّ التحديات والمصاعب والتمزّقات والأسئلة المرهقة. تسع سنوات ونحن نستعيد جوزف كلّ صباح، ونحاول جاهدين أن نبقى على مستوى الأمانة في قلب الإعصار. في هذا الزمن الصعب، زمن الاستقالات والتحوّلات، ضياع الأولويات والمساومة على الثوابت، بقي كثيرون، ونحن منهم، في أرض الوغى، يقيمون علاقة نقدية مع الواقع، وهاجسهم الإمساك بجوهر الصراع والإحاطة بطبيعته وتحديد أولويّاته.
ما زال هؤلاء، أصحاب المشروع القومي، النهضوي، التقدمي، يواجهون الرياح المعاكسة، والتيّارات الجارفة، مؤمنين بأننا سنبلغ، عاجلاً أو آجلاً، نهاية النفق الطويل. تسع سنوات مرّت بلمح البصر إذا نظرنا من داخل الحلبة، وفي الوقت نفسه تبدو دهراً، لشدّة ما تغيّر المشهد في دوّامة «الربيع» المجهض والمسروق. هذا الخراب العظيم، أنهارُ الدم والدموع، المآسي الإنسانية والمخاطر الوجوديّة، سمفونيات الصراخ التي تصمّ الكوكب، تضعنا باستمرار أمام امتحان الضمير: على أيّة أرضيّة نقف؟ أما زلنا أوفياء للعقد التأسيسي الذي اعتمدته «الأخبار» في انطلاقتها الثانية بقيادة جوزف سماحة، ذات صيف حارق سيطبع مجرى الأحداث اللاحقة، ويغيّر المعادلات في المنطقة العربيّة؟ أما زلنا منسجمين مع المبادئ والقواعد الأساسية، مع القيم والأهداف؟ صاحب الوعي الفذّ، والبسمة الماكرة، والخيارات الراديكاليّة، هل كان، بتطلعاته وتطلّباته، سيرضى عن خياراتنا في هذه المرحلة، وعمّا نحن عليه اليوم؟
من الصعب استنطاق الغائب واستفتاؤه وتأويل صمته. لكن ما بوسعنا فعله اليوم في ذكرى جوزف، وعلى قاب قوسين من الذكرى العاشرة لانطلاقة «الأخبار»، مشروعه ـــ الوصيّة، أن نعيد تأكيد أولويّات ثلاث في تركته الفريدة، تجب المحافظة عليها كي نبقى نليق به. ثلاثة رهانات كانت ولا تزال تشكّل جوهر جريدتنا، وروحها، وعلامتها الفارقة على مستوى الصحافة العربيّة.
هناك أوّلاً الرهان المهني. كانت «الأخبار» ولا تزال جريدة الاختلاف والتأنيث والمغايرة والشباب. الجريدة التي ولدت كـ «انتفاضة على واقع الصحافة قبل عشر سنوات»، كما ذكّر رئيس التحرير إبراهيم الأمين في اجتماع عام لموظفي وموظفات المؤسسة وأصدقائها الأحد الماضي. جريدة الابتكار والتجاوز والجرأة والتصادم مع الواقع. جريدة «رأي» بكل فخر، فهذه قيمة مضافة ونقطة قوّة، شرط إعادة الاعتبار الدائمة للأصول والقواعد والأمانة المهنيّة. جريدة ميدانيّة، قريبة من الناس من دون تملّق أو ديماغوجيّة أو فضائحيّة، تجمع بين السياسة والأخلاق، بين الثقافة الشعبية والطليعية، بين الهاجس اليومي الذي نعيش والتاريخ الذي يكتب أمامنا. جريدة تأخذ في الاعتبار التطور التقني، والجوانب الشكلية والبصرية. جريدة تراهن على الحوار والتعددية والاستفزاز الراقي للسائد، وتخطي المحظورات بهدوء واحترام للجمهور. جريدة الجرأة الفكريّة والسياسيّة والمهنيّة. مشروعها الحداثة والتجديد والتغيير والتجريب والتجاوز. جريدة تنتقد الأصدقاء قبل الخصوم، لأن هذا واجبها ودورها، ولأنّها قواعد اللعبة الديمقراطيّة.
هناك ثانياً الرهان السياسي. هنا أيضاً نستعيد كلمات إبراهيم الأمين قبل أيّام، مذكّراً بالمبادئ التي تربطه بشريكه الراحل: «نحن جريدة معارضة للفساد كله. السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي (…) نحن جريدة علمانية، لا يتحكم فيها لوننا الطائفي أو المذهبي أو العقائدي (…) محافظة على هويتها المقاومة، ومحاربتها للفساد، وتوقها إلى دولة المواطنة والعدالة اجتماعية». نعم، لقد قامت «الأخبار» على معادلة سحريّة. إنّها مشروع مركّب ـــ على صورة جوزف سماحة القومي/ الأممي، والعروبي/ اليساري الذي تعامل مع الحركات الإسلاميّة بعقلانيّة وجدليّة واحترام ـــ يجمع بين الهم الاجتماعي التغييري والتقدمي، وخيار الممانعة: أي مواجهة الاستعمار ورأس حربته إسرائيل وخدمه الأذلاّء من رجعيّات وأصوليّات تشكّل السرطان الذي ينخر العروبة (بالإذن من دعاة عروبة آخر زمن طبعاً: أنطوان زهرا ووائل أبو فاعور والسنيورة والحريري وإليسا والياس الديري والآخرين). دعاة العروبة الحقيقيون لا يمكنهم أن يتجاهلوا أن الوهابيّة حليف موضوعي للصهيونيّة، وأن ممالك القهر عائق فظيع أمام تطوّر شعوبنا، حضارياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وفكرياً.
هناك ثالثاً وأخيراً رهان الاستمراريّة. انطلقت «الأخبار» كجريدة شابة، كجريدة الشباب، وعليها أن تبقى كذلك. الشباب أسلوب حياة وتفكير وتعبير. و«الأخبار» هي المدرسة التي تستقطب الجيل الجديد، وتشرّع آفاقه، وتحرّض مخيّلته، ثم ترميه في المعترك. في سنوات قليلة خرّجت جريدتنا كفاءات لم تكن لتشق طريقها في أدغال المهنة لولا تجربة «الأخبار»، وصنعت حساسيّة خاصة وأسلوباً ونمط حياة وصحافة. اليوم وقد أخذ عنّا الجميع، ها نحن نبحث عن آفاق وأقاليم عذراء لمواصلة المغامرة، ونفتح أبوابنا لطاقات جديدة لتتعرّف إلى تراث جوزف سماحة وتستلم مشعله وتواصل مساره.
إذا كانت الذكرى هي مناسبة لاستعادة الغائب، وتجديد العهد معه، فتلك هي التزاماتنا تجاه جوزف الحاضر في غيابه.