Site icon IMLebanon

قوقعتُنا الرحبة

هل صحيح أن الثورة التكنولوجية الحديثة جعلت الإنسان يزداد انغلاقاً على نفسه، ويعيش في كون خاص به، في حين أن هذه الثورة قامت على أساس تقويض الانغلاقات والتقسيمات التي تُبعد الدول والبشر بعضهم عن بعض، وتحويل العالم قرية كونية متكاملة، مفتوحة أجزاؤها، مشرّعة عوالمها على الجهات كلها؟

هذه حقيقة لا جدال فيها. عالم الانترنت، جعل الغرفة المغلقة التي يحيا فيها الشاب أو الشابة، كوناً بكل ما في الكلمة من معنى. طبعاً هو كون، لكنه مفتعل الى حد ما. الصورة إذاً ترتسم على الوجه الآتي: شخص معزول في غرفته ذات الأمتار الأربعة المربعة، لكنه متحرر في الوقت نفسه من حدود غرفته الضيقة، وموصول بالكون كله.

ما النتيجة المترتبة على هذا التناقض الظاهري الرهيب؟ المزيد من القدرة الافتراضية على كسر الحدود وتحطيمها وتقريب المسافات والأشخاص والعلوم والدول والحضارات، لكن المزيد من العزلة الواقعية، تجعل الشخص المعني يعيش انفصاماً جوهرياً بين الحقيقتين الواقعية والافتراضية.

من يفوز في هذا الانفصام، ومن يخسر؟ الفائز ماذا يخسر، وماذا يربح؟

بعيداً من كل جواب تعميمي، أطرح الأسئلة الآتية: ألا يخسر الإنسان في إقامته الجديدة هذه، الخارج الطبيعي والموضوعي، الذي يتيح له أن يكون على تماس واقعي مع الآخر، بما هو عليه هذا الآخر؟ خسارته المحتملة هذه، ألا تنعكس آثارها غير المرئية في حياته، علاقاته، شخصيته، طموحاته، رغباته، أحلامه، هواجسه، خبراته، ونفسيته؟ هذا الإنسان الموصول بالعالم كله، ألا ينقطع عن حياته الطبيعية، وعلاقاته الطبيعية، وفضائه الطبيعي، وعلومه الطبيعية، ونموّه الطبيعي، بما يترتب على هذا الانقطاع من شروخ غير معروفة حدودها وآثارها؟

هذه الأسئلة التي أثيرها، تضاف اليها هواجس أفكر فيها يوميا، وتقلقني كل يوم، وتجعلني أعيش الالتباس الإشكالي حيالها. فأنا نفسي، أمارس هذه الحياة، موزّعةً بين غرفتي الواقعية وعالمها الموصول بدنيا الانترنت وفضاءاته التي لا حدود لها.

أنا نفسي، أشعر بالامتلاء والاغتناء والحرية والرحابة والتنوع من جراء هذه الإقامة التي ظاهرها غرفة ضيقة وباطنها عالم لا حدود له، لكني في الآن نفسه أشعر بالحاجة الى العالم الواقعي، بل أشعر بالنقصان بسبب انفصالي الالكتروني عنه.

في خضمّ هذه الإشكالية الجوهرية، لا يستطيع المرء ان يجد حلولاً اعتباطية، تعميمية، يرغم الآخرين على اعتبارها صالحة للجميع. فهذه مسألة فردية يجيب عنها كل فرد بنفسه، بحسب أحواله وتجاربه.

المسألة محض شخصية. فليجرِّب كلٌّ حظوظه في الواقع والافتراض، وليعلمنا بالنتيجة!