المقاومة الفلسطينية أرادت «تحرير القدس من جونيه»، والمقاومة الإسلامية تقول بأنّها تقاتل في سوريا من أجل حماية جونيه، وإذا كان هدف الأولى تحدّي المسيحيين في قلب عاصمتهم في جبل لبنان بسبب رفضِهم تحويلَ لبنان إلى دولة بديلة، فإنّ هدف الثانية رشوتهم لتغطية استمرار الدويلة.
في الوقت الذي انتقل فيه «حزب الله» عسكرياً في سوريا وعلى الحدود من موقع المبادر والمهاجم إلى المدافع والمتلقّي، انتقلَ إعلامياً في لبنان من موقع المتّهَم في استجلاب الحرب السورية إلى لبنان والخروج عن سياسة النأي بالنفس واتّفاق الطائف، إلى موقع «المدافع عن لبنان».
وبمعزل عن نفي بكركي لِما تناقلته بعض وسائل الإعلام من كلام منسوب للبطريرك بشارة الراعي قيل أنه ردّده أمام حلقة ضيّقة في الصرح البطريركي، وفحواه أنّه «لو سُئل المسيحيون في لبنان اليوم عن رأيهم بما يجري من تطوّرات، لردّدوا جميعاً أنّه لولا «حزب الله» لكان «داعش» قد أصبح في جونيه»، إلّا أنّ كلام الراعي الذي لم يقله أساساً يتردّد بشكل أو بآخر داخل الشارع المسيحي.
وفي هذا السياق نجح «حزب الله» في تسجيل انتصار سياسي-إعلامي في معركته مع «داعش» و»النصرة»، حيث ليس فقط لم يعُد التركيز على سلاحه كأولوية لبنانية-وطنية تتطلب نزعَه لوضعه بيد الدولة، إنّما تحوّل في العقل الباطني للناس غير المسيّسين إلى وسيلة للدفاع عنهم وعن لبنان.
وهذا النجاح السياسي-الإعلامي ما كان ليتحقّق لولا ارتباك قوى 14 آذار وتراجعها وتسليمها بالأمر الواقع وافتقادها لدور المرجعية والقيادة، لأنّ أيّ تبدّل في مزاج الناس حيال سلاح «حزب الله» يشكّل انتكاسة في خط المواجهة السياسية التي قادتها ضد هذا السلاح منذ انطلاقها في 14 آذار 2005 ووصلت إلى أوجها مع إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري وانخراط الحزب في القتال السوري، حيث إنّ الانتصار على السلاح ومنطق السلاح وثقافة السلاح يتمّ بالتراكم، وهذا التراكم بالذات بدأ بالتناقص منذ لحظة صعود الخطر التكفيري.
فالمواجهة السياسية مع سلاح «حزب الله» لا تقوم على قاعدة أفضل التفضيل، أو بين السيّئ والأسوأ، ووجوب التركيز على الأسوأ التكفيري و»لاحقين» على السيّئ المتمثل بسلاح الحزب، لأنّ أخطر ما في هذا النوع من المواجهات تعويد الرأي العام على فكرة التعايش والتساكن مع الأوضاع الاستثنائية الناجمة عن إصرار فريق من اللبنانيين على التمسّك بسلاحه، والأخطر من ذلك الإيحاء لهذا الرأي العام بإمكانية التقاطع مع هذا الفريق، الأمر الذي يجعل مواصلة المواجهة السياسية مستقبلاً معه متعذّرةً أو صعبة بالحد الأدنى.
والمسؤولية لا تقع على الناس الذين أصبحَت لازمة أحاديثهم «هل بيفوتو علينا داعش، ومتى، وشو لازم نعمل؟»، إنّما تقع على 14 آذار مجتمعةً التي ارتبَكت أمام هذا الوضع المستجد، مع استثناءات فردية وجماعية، أبرزُها للدكتور سمير جعجع الذي أكّد أنّ «دواعش القفّازات المخملية هي أشدّ خطراً وفتكاً من داعشية غبية استجلبَت في وقت قياسي إجماعاً دولياً ضدها»، ولقاء سيّدة الجبل الذي أكّد أيضاً أنّه لا يمكن التمييز بين إرهاب «إسلامي» يجب محاربته وإرهاب «علماني» ينبغي التغاضي عنه.
ولكنّ هذه المواقف لم تتحوّل إلى حملة سياسية مركّزة من قِبل كلّ مكوّنات 14 آذار إلى أن وقعت معركة جرود بريتال وعملية شبعا، حيث أظهرَت الأولى أنّ الحدود في هذه البقعة باستلام «حزب الله»، وكأنّ المسألة طبيعية جداً، فيما أظهرَت الثانية أنّ الحزب غير عابئ بتوريط لبنان في حرب مع إسرائيل مقابل رسائل تذكيرية وتعويضية، وكأنّ فتح حرب مع دولة أخرى مسألة بديهية أيضاً، أو أنّه لا يقدّر عواقب تصرّفه.
وأمام عودة المخاطر من استجلاب الحروب السورية والإسرائيلية استعادَت قوى 14 آذار خطابها الذي سبقَ تأليف الحكومة، من أنّ حماية الحدود هي من مسؤولية الدولة حصراً، إلى رفض الرئيس سعد الحريري تصرّف «حزب الله» في شؤون الحرب والسلم على هواه، واستخدامه الحدود منصّة لتوجيه الرسائل.
وعليه، أي بعد عودة المخاطر الجدّية من الحدود، والتبدّل في أولويات اللبنانيين ونظرتهم إلى سلاح «حزب الله» وجدت 14 آذار نفسَها مدعوّة إلى المواجهة ضمن حدّين: حد أدنى يتمثل في عودة الاشتباك السياسي وربط النزاع حول السلاح، وحد أقصى الاستقالة من الحكومة.
ويبقى أنّ للبحث صِلة في مواجهة 14 آذار وخيارات جونيه وأهلها.