معلوم، ومعاد مكرّر، الخطاب «التخويني» لتجربة «قوى 14 آذار»، والذي يبدو أنه استمرّ الى ما بعد التجربة التحالفية الاستقلالية نفسها. السجال مع هذا الخطاب مشبّع منذ وقت طويل. ليس فيه جديد، وليس منه طائل.
ما يغيب عن الرصد كخطاب قائم بذاته، في المقابل، هو الخطاب المبني على رشق هذه التجربة بتهمة «السذاجة». هذا الخطاب له حيثية أخرى. اذ تتشارك فيه قوى مختلفة، بعضها معاد لكل ما جسّدته 14 آذار، وبعضها من رحم هذه التجربة. وعلة الاتهام بالسذاجة ليست هي نفسها في جميع الحالات، وبعضها يرد على البعض الآخر. فهناك من يأخذ على الحراك الاستقلالي أنه لم يكن استقلالياً شاملاً لأن مناهضته للوصاية السورية لم تستكمل بموقف استقلالي أكثر شمولية في العلاقات الخارجية ككل، وهناك من يأخذ عليه أنه كان جذرياً فوق اللزوم، وأن لبنان بالفعل ليس اوكرانيا كما قال السيد حسن.. وهل اوكرانيا نفسها «اوكرانيا» (بمعنى تجربة يلعب فيها ميدان الاعتراض الجماهيري دور المحرك التغييري التحرري الاساسي).
هناك من اعتبر أن «نصف الثورة» سذاجة، وكان المطلوب الذهاب بالانتفاضة الى خواتيمها: انهاء مفاعيل التمديد القسري، واقامة الحكم الاستقلالي. لكن وجهة النظر هذه نعتت أيضاً بالسذاجة: فهي تجنح للمكابرة على الوقائع الطائفية الداخلية، وعلى الاشرافات الدولية والاقليمية المختلفة، وتبدو أقرب الى إسقاط مشاهد من الذاكرة الرومانسية الثورية على وضع لبناني من الافتعال للغاية النظر اليه برومانسية.
وفي الواقع، حُرمت 14 آذار حقها من الرومانسية. كل الحركات في التاريخ اللبناني انتقدها من تجاوزها أو ناقضها على أنها رومانسية، وتغزل بها الى حد ما بمعية هذا الوصف. الا 14 آذار، حرمت من تهمة الرومانسية (أو اختزلت رومانسيتها في تجربة سمير قصير). في مقابل خطابي التخوين والرد على التخوين، تنامت سنة بعد سنة نزعة رشقها بالسذاجة.. السذاجة في النظر للقانون الدولي، للمحكمة الدولية، للعلاقات العربية، للحسابات الاميركية والغربية، السذاجة في المواجهة والتهدئة مع «حزب الله»، السذاجة في النظرة الى الثورة السورية، وطبعاً السذاجة في تعليقها آمال على فوزها بالانتخابات عام 2009، والسذاجة في شعار «العبور الى الدولة».
ليس السؤال الآن هو معرفة اذا كانت 14 آذار فعلاً بهذا القدر أو ذاك من السذاجة، بقدر ما أنه يتعلق بتجذر هذه النظرة أكثر فاكثر، حتى بعد انقضاء المرحلة الجبهوية النشيطة لقوى 14 آذار. فأكثر فأكثر، هناك نظرة تعتمل في قطاعات واسعة من المجتمع اللبناني، على أن القسمة الاساسية اليوم هي بين الخبثاء وبين السذّج.
وأي عقد اجتماعي يمكن أن يرسو في بلد اذا كانت هذه هي القسمة المسيطرة عليه، بل اذا كان طرف الخبثاء الصلف يريد في الوقت نفسه أن يحتكر صفة الرومانسية الثورية، بالبندقية التي لا تهدأ، وأن يعتبر كل مخالف ساذجا لأنه خائن، وخائن لأنه ساذج.
اذا كان من شيء ينبغي التصالح معه اليوم، فمع هذه السذاجة. السذاجة التي دفعت نفراً منا الى الايمان بأن الوصاية السورية الى زوال، وهذا تحقق، وأن مشكلة «حزب الله» أسهل وتحل بعد الجلاء السوري، وتلك كانت نقطة السذاجة الطليعية. السذاجة التي دفعت نفراً آخرين الى سؤال الحزب عن سلاحه، حتى ولو كان بعد حرب تموز، بل بالضبط بعد حرب تموز: لم تفلح بالطبع في وضعه في كنف الدولة، لكنها استبقت تحوله الى سلاح مستخدم في الداخل.
السذاجة أكثر من ضرورية اذا كانت القسمة بين خبثاء وسذج. هي اذاك فعل تحرري سياسي تراكمي، مفتوح دائماً على التفاؤل.
في كلمته الاخيرة، وصف السيد حسن من يعترض على التعاطي مع الجيش السوري بأنهم «الفلاسفة السياسيون». كان يقصد أنهم سذج. عن غير قصد كان السيد حسن يلفت الى ما في السذاجة من فلسفة لتدبر الحال في أيامنا. السذاجة سياسة وضرورة حياة، عندما يكون الخيار المجتمعي الكلي بينها وبين الخبث.