Site icon IMLebanon

الحرّيات ومساحاتها التي تضيق!

 

أتفه وأسخف ما في الكون أن تنسحب نظريات المؤامرات السياسية التي استُغلّت بعقود من الأنظمة الديكتاتوريّة العربية لقمع الشعوب وإلقاء القبض على حرياتها وحقوقها، على الشؤون الصحّية، كأنّ ثمّة من يقول إنّ فيروس “كورونا” مؤامرة سياسية. السياسيون ليسوا ملائكة بطبيعة الحال، ولكن الإقتناع بأنّ هناك من افتعل هذا الوباء لتحقيق مآرب سياسية لا يعدو كونه هذياناً وإنكاراً.

 

لا أحد يمكنه ألّا يقيم الإعتبار للواقع المزري على الصعيد المعيشي والإجتماعي، وهو كان كذلك قبل تفشّي الوباء، إلا أنّه اتّخذ منعطفات أكثر خطورة بعده، معطوفاً بطبيعة الحال على فشل كلّ السياسات المتتالية على المستويين السياسي والإقتصادي. ولعلّ إحدى أبرز علامات هذا الفشل تجلت في التعطيل المنهجي للمؤسسات الدستورية في حقبات متلاحقة، مما حال دون التقدّم قيد أنملة على مستوى الإصلاح المطلوب أكثر من أي وقت مضى.

 

ثمّة أنظمة قمعية اضطهدت شعوبها وصادرت أبسط مقوّمات الحياة الديموقراطية، من خلال إرساء دعائم أمنية كانت ترمي بالدرجة الأولى إلى الإنقضاض على أيّ مساحات أو هوامش للحرّيات العامة، وثمّة أنظمة أخرى قام بعض أطرافها بالدور ذاته، ولو أن هذا البعض غلّف ويغلّف حركته السياسية بعناوين برّاقة في الشكل، إنما فارغة من أي مضمون في العمق.

 

لبنان ينتمي إلى الفئة الثانية بحيث بات مشهد التوقيفات بسبب حرية الرأي والتعبير من المشاهد المتكررة، والتي لا تعدو كونها خطوات ترمي إلى إثارة الخوف في صفوف أصحاب الرأي، لمجرد أنها تتحرّك خارج السياقات المألوفة وأعلى من السقوف المتوقعة.

 

ولكن لبنان هو لبنان. متنفّسه الأساسي المساحات المفتوحة للحرّيات والقدرة على التعبير عن الرأي السياسي، من دون خوف من الإعتقال أو القتل أو السحل. صحيحٌ أن ثمّة تجارب مرّة في التاريخ المعاصر التي تخالف هذا التوجّه وتمثّلت في التصفية المباشرة لصحافيين وكتّاب رأي بارزين، وعددهم ليس بقليل؛ ولكن الصحيح أيضاً أنّ مسار الحريات في لبنان من الممنوع أن يتراجع.

 

لبنان من دون حرّية يفقد جوهر وجوده، وربّما هذا ما تريده بعض القوى التي تنفّذ أجندات خارجية ولا تهمّها كثيراً المصلحة الوطنية اللبنانية أو التركيبة المحلية، بالرغم من أنّه لا بدّ من الإقرار بأنّ طبيعة هذه التركيبة هي التي أتاحت للعديد من الأطراف بأن تمدّد نفوذها وقوّتها على الساحة الداخلية، بما يتخطّى قوّة الدولة المركزية التي غالباً ما يتبيّن أنّها الطرف الأكثر هشاشة!

 

ولكنّ البارز أيضاً، من ناحية أخرى، أنّ هذه الدولة، على هشاشتها وضعفها وتضعضعها، لا بديل عنها ولا غنى عن دورها حتى لدى الأفرقاء الأكثر قوّة وتأثيراً، وهم لا يتوانون عن الإستعانة بها عندما تدعو الحاجة، لا سيّما في المسائل التي قد يؤدّي تورّطهم فيها إلى احتكاك مباشر، إنّما غير مرغوب فيه، مع جماهيرها!

 

عمليّاً، ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أنّه من غير المقبول سقوط الدولة بصورة نهائية، لأنّها لا تزال توفّر الملاذ لبعض المؤمنين بمشروعها، وحتّى لغير المؤمنين بهذا المشروع! ولكن، في الوقت ذاته، من غير المسموح قيام الدولة، أسوة بدول العالم أجمع، أي الدولة القائمة على عمل المؤسّسات واحترام الدستور وتطبيق القانون، والساعية دوماً للمساواة بين مواطنيها على كلّ المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.

 

إذاً، المطلوب إبقاء قاعدة “لا إنهيار ولا إزدهار” على أنّها القاعدة الأساسية التي تتحكّم بمرتكزات العمل السياسي اللبناني، وهذه القاعدة توفّر مجالات رحبة للقوى الداخلية لتحقّق أهدافها الفئوية المصلحية، بالتزامن والتقاطع مع الأطراف الخارجية الداعمة لها!

 

يا لها من قاعدة ذهبية، لا بل خشبية!