كانت كبريات الصحف الأجنبية، وبالذات الأميركية والبريطانية والفرنسية، تروي بعض الأحيان تربتها الجافة بالرسائل التي يبعث بها صحافيون في الستينات والسبعينات توفدهم تلك الصحف إلى بيروت؛ كون العاصمة اللبنانية هي الرادار والأكثر معرفة بما يدور في كواليس دواوين أهل الحُكْم في العالم العربي، وبالذات في الدول الأكثر إشغالاً للبال العربي والدولي على حد سواء، ونعني بذلك مصر الناصرية، والعراق وسوريا ببعثيْهما الصدَّامي والأسدي. فالصحافة اللبنانية في معظم أهوائها أو هواياتها تملك من حرية النشر ما هو غير متيسر في سائر الدول العربية. والسياسيون اللبنانيون، المستقل منهم أو الحزبي أو الناصري أو العراقي الهوى الذي يكون موضع ثقة أهل الحُكْم في الأوساط الخليجية، دائمو التنقل بين بيروت وتلك الدول أو مستضيفو في لبنان شخصيات ذات فاعلية في المشهد السياسي لتلك الدول. واعتاد هؤلاء على أن يفيضوا في الكلام عندما يلتقون في بعض مقاصف ومقاهي العاصمة اللبنانية بالصحافيين الذين يتابعون تطورات الأحداث والأزمات في المنطقة العربية وبالذات مصر الناصرية والعراق الصدَّامي وسوريا الأسدية. والذي يجعلهم يفيضون في الكلام هو الظهور بمظهر العارفين بما لا يعرفه آخرون، ومن دون أن يستوقفهم أن بعض ما سمعوه في ظل أجواء من الثقة بهم هو كلام يندرج ضمن قاعدة المجالس بالأمانات. كما يحدث أيضاً أن المراسلين الأجانب ينتظرون ما تنشره الصحف اللبنانية ويستخلصون منها مادة يعززون بها ما يبعثونه من رسائل إلى صحفهم في واشنطن ونيويورك ولندن وباريس، ويكون التركيز على مَن هو الأكثر معرفة بأحوال وأزمات تحدُث في العالم العربي، وبشكل خاص في الدول الثلاث المشار إليها. وإذا كان هذا الصحافي على صلة وطيدة بأصحاب القرار في تلك الدول، ويتضح ذلك من رسائله التي يبعث بها عندما يكون في مهمة صحافية في عاصمة هذه الدولة أو تلك (القاهرة. بغداد. دمشق. الرياض. الخرطوم. الجزائر. عمان). فهذا يعني أنه يملك من المعلومات والأسرار ما لا ينشره؛ ولذا يُستحسن احتواؤه معنوياً كأن يتم الإضاءة على كتاباته كمرحلة أُولى، ثم إفساح المجال أمام قلمه كاتباً في هذه الصحيفة أو تلك المجلة. وهنا يصبح الحذر مطلوباً؛ لأنه كما لمردود هذا الاستدراج مكسب معنوي، فإن له في الوقت نفسه محاذيره؛ كون الصحافي عندما ينَتسب كاتباً في هذه الصحيفة الدولية الكبرى أو تلك سيجد قلمه يكتب ما يستهوي الصحيفة وما لا تجيز له مواطنيته الذهاب بعيداً في الكتابة، وخصوصاً إذا كان بحكم علاقاته الوطيدة بمسؤولين في إدارات رسمية تعتمد السرية في حراكها، وتملك من الوثائق والمعلومات الرسمية والخاصة والكثيرة الحساسية، أمكنه الوقوف على هذه الخصوصية والأسرار ومعرفة نقاط القوة والضعف في هذا المرجع أو ذاك. وفي هذه الحال لا تعود المعرفة امتيازاً، ولا يعود مالكها في منأى عن دائرة الخطر، خصوصاً أننا في حقبة من الصراعات يكون استقطاب هذا الصحافي العارف بما في البئر وغطاها على نحو المثل الشعبي، عنصر إقلاق لوطنه. ويتطور هذا الشعور إلى اعتبار الصحافي بات في الطريق لأن يكون بيدقاً لمصلحة طرف منافِس أو خصم في لعبة شطرنج بالغة التعقيد نتائج خاتمتها. بل إنها بالنسبة إليه مصيبة إذا كان لا يدري، ومصيبة أعظم إذا كان يدري.
كما أن تيسير شأنه في هذه المطبوعة الأجنبية، وكيف أن فرصة انتشار ما يكتبه أسرع من انتشار ما يحاول تسويقه أولو القرار في وطنه الأم، أو حول قضية هنالك ما يشبه الإجماع حول التمسك بجوهرها واختصار الاجتهادات في شأنها ونعني بها القضية الفلسطينية… إن مثل هذا التيسير الذي نشير إليه سيجعله عامداً متعمداً أو لخلل في البوصلة يصوِّر نفسه، بأنه مؤهل ليكون رمز قوة اعتراض ناعمة، تحقق له ولمَن يطرون كتاباته، التي لا مشقة في قراءاتها ما دامت تُكتب بلغتهم، أن يكون لاعب هجوم في مباراة الصراع الدائر على الأرض العربية، وخصوصاً الأرض الخليجية منذ أن باغتت عاصفة تشقق هوجاء صيغة التعاون فبات التطلع نحو التوحيد بعيد المنال.
هذه التهيؤات محاذيرها كثيرة، خصوصاً أن حقبة نوعية للتطوير بدأت تشق طريقها في المملكة العربية السعودية، وبات الرأي العام معنياً بها كما رمز هذا التطوير وصاحب القرار فيه. ولذا؛ فإن المزاج الشعبي هنا لا يتحمل أي تعكير للتطوير المأمول، ويرى أن هذا التطوير أشبه بمعركة استعادة أرض أو حق ويجب ألا يعلو صوت على صوتها.
وتبقى الإشارة إلى حالة عامة وحالة خاصة تتصلان بمسألة الصحافي الذي يمزج المهنة بالتطلعات السياسية فيجنح به التطلع وخُيلاء المنبر الذي يخاطب من خلاله إلى أن يختلط التعبير عنده بين ما يمكن أن يقال وما لا يجوز احتراماً للوطن الأم والوطن الأكبر قوله وفِعْله.
تتمثل الحالة العامة بالراحل محمد حسنين هيكل الذي خدم قضية بلده مصر والنظام الناصري من خلال إطلالاته على المجتمع السياسي الدولي عبْر الصحافة البريطانية والصحافة الأميركية، ولم يسجل على قلمه أنه كتب بما ينفع الغير ويضر ببلده. كما بقي خارج الخط الأحمر.