لا يقدم الوزير السابق شربل نحاس نفسه على أساس أنه قائد الحراك الشعبي المتوالي فصولاً منذ شهر بالتمام والكمال، ومن البديهي أنه لا يعد نفسه كـ”بنديكت” ثورة طلاب فرنسا في عام 1968. غير أن من يرصد تصريحاته وأداءه وظهوره المفاجئ في مقدم كل تظاهرة أو اعتصام أو على شاشات التلفزة يستنتج أن لهذا الرجل دوراً ريادياً في عمليات الحشد والتعبئة و”الأدلجة” وتأصيل منطلقات المشاركين في الحراك وترسيخ شعاراتهم.
الرجل بطبيعة الحال لا يأتي من غامض أو مجهول، فهو ربما الشخصية الوحيدة في تاريخ السياسة اللبنانية الذي آثر التضحية طوعاً بالوزارة وقد آلت اليه لكي لا يخون قناعاته الراسخة فغادر مكتبه في وزارة العمل بعدما تخلى عنه فريقه السياسي ليشرع في رحلة نضال سياسي شاقة على طريقة الحفر تحاكي الرحلات النضالية الصعبة في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
يساريته وراديكاليته أمران لا يواريهما ولا ينكرهما، لكنه يبيح لنفسه أن ينتقد بشدة سلوك “الزعيم الملهم” والحزب القائد الذي هو فوق النقد ومنزّه عن الخطأ.
من هذه القناعة المتطورة ينطلق ليرد على السؤال الذي يعتمل في أذهان الكثرين عن ماهية القيادة الفردية والجماعية التي تؤطر الحراك وتنظمه وترفده بالشعارات المناسبة والجاذبة ليقول: “ولّى زمن التظاهرات المعلبة التي تأتي بالمشاركين بالباصات ليرفعوا الشعارات المحددة عينها ويسلكون السلوك عينه ويكادون يرتدون زياً واحداً. لقد رحلت هذه الصورة النمطية لحساب التنوّع والتعدد، فالحراك المستمر منذ شهر مزيته التنوّع: تنوّع الهموم التي ولدته وأطلقته،وتنوّع الأوجاع التي كانت سبب اطالة أمده وسقوط الرهانات على تبدده وتعب المشاركين فيه ورحيلهم لا يلوون الا على خيباتهم”.
وبثقة قوية بالنفس “يكشف” نحاس أن المنخرطين في الحراك حققوا خلال ثلاث محطات رئيسية مرّ بها الحراك منذ انطلاقته العملانية تقدما ملموساً في اتجاه توحيد الشعار والخطاب
والبيانات الصادرة عن الجهات الداعية، وفي اتجاه اذابة الفروق بين سلوك هذه المجموعات والجماعات، وهو انجاز ليس بالعابر لحراك ما فتئ طري العود ينم ولا ريب عن رغبة أصيلة في أن يحدث الحراك خرقاً نوعياً. فضلاً عن ذلك، بدأ الحراك يفرز مؤسساته القيادية التأطيرية من خلال انبثاق لجان المحامين والاعلاميين والانضباط والاتصال ولجان أخرى مهمتها الضبط والربط والقيادة اليومية.
والى هذا الاقرار الضمني بأن الحراك الذي بدأ عفو الخاطر يعبّر عن قرف الناس من عجز السلطة على كل الصعد بما فيها معالجة مسألة إزالة النفايات، يدحض نحاس مقولة تسري كالنار في الهشيم عن عجز الحراك عن صوغ الشعار الواحد الذي يحدد هدفاً نهائياً شفافاً له يخرجه من تعددية الشعار، اذ يقول: “بات للحراك شعار واحد يحمل كل الشعارات ويكثفها وهو: إعادة بناء دولة شرعية تتمتع بثلاث مواصفات هي دولة مدنية وديموقراطية وعادلة بعدما استحالت الدولة الحالية سلطة أمر واقع لا شرعية لها.
إنه إذاً برأي نحاس الشعار الذي صار مصلحة مشتركة لكل المنخرطين في الحراك رغم تنوّع الدوافع التي حدت بهم الى التوافد من كل حدب وصوب الى وسط العاصمة ليرفعوا الصوت مدوياً.
والمشكلة في رأيه صارت عند الطرف الآخر، أي السلطة التي تجهل مصلحتها الحقيقية أو تكابر وتعاند عندما ترفض الدخول في حوار منتج مع المشاركين في الحراك على طريقة “أبو رخوصة” الذي استفز كل الناس عندما قال ما مضمونه وجوهره: “أنا بغنى عنكم ولا أريدكم حتى كزبائن”. فالمعروف أن اضراباً أو حراكاً ينطلق في أي مصنع أو مؤسسة، ثمة مصلحة لرب العمل في محاورة المضربين مهما كانت درجة الخلاف والتباعد لأن حل المشكلة يعيد انتظام العمل في المؤسسة وتالياً يرد الارباح.
مشكلة الدولة عندنا يضيف نحاس هي أنها برفضها محاورة المشاركين في الحراك تنكر شرعيتها. وفي طيات كلامه رد ضمني على القائلين بأن “ابو” الحراك و”أمه” هو قضية النفايات، وعند ايجاد الحل، وقد صار وشيكاً، فإن الحراك آيل الى انطواء، فيقول: “هذا وهم. النفايات ليست المشكلة الوحيدة التي دفعت الناس الى الشارع. وهي الصاعق الذي أشعل الفتيل، لكن الجميع على بيّنة من الذي أوجد هذه المشكلة. هو الفساد والمحاصصة المعششان في الذهنية التي تدير الدولة منذ زمن وما زالت تعتقد أن بامكانها المضي قدماً وكأن شيئاً لم يكن في الشارع”.
وعن احتجاج البعض ممن رفعت صورهم كرموز الفساد يسأل نحاس: “ما العجب اذا كان بعض هؤلاء ظهر ذات يوم على احدى الشاشات وأقر بانتمائه الى زمرة الفاسدين عندما قال إن في الشركات العائدة اليه دفترين: واحد وهمي للمالية والآخر حقيقي للشركة، وهل يكون المشاركون متجنين اذا رفعوا صورته مع الفاسدين؟”.
ويرفض القول إنه يستثمر في يأس الناس ووجعهم، بل يرى أن الحراك هو نتيجة منطقية لمسار طويل من لعبة الفساد والإفساد التي طالت أكثر من اللازم.
وقبل أن يغادر يؤكد نحاس ما سبق له أن قاله غداة تظاهرة الأحد: “نعم الحراك في تقدم، وإن كل محاولات ترهيبه عبر عمليات الزعرنة الميليشيوية كانت عاجزة”.
قال نحاس كلمته ومشى وكله أمل في أن الأمور بعد انطلاق الحراك لن تعود الى سالف عهدها… و”الأيام بيننا”.