IMLebanon

رحلة «انتفاضة الاستقلال» التي لم تكتمل: هكذا سقط الحلم

وقْعُ الصدمة عند اللبنانيين كان أشد من دوي الانفجار. أن لا يكون رفيق الحريري موجوداً، فذلك زلزال لا يُضاهيه زلزال في لبنان ما بعد الطائف. الحياة انقلبت رأساً على عقب عندها، لكن مع ذلك، فإن هذا الانقلاب لم يكن وليد الساعة الواحدة إلا خمس دقائق فقط. كان سياقه بدأ منذ أيام وأشهر، وكما يقول سمير فرنجية، منذ بدأ النظام السوري يسوّق للتمديد للرئيس إميل لحود.

بالتوازي مع القرار السوري، كان ركاب عربة الاعتراض على التمديد يزدادون. الرئيس الحريري انضم إلى الكنيسة المارونية ولقاء قرنة شهوان والنائب وليد جنبلاط الذين كانوا أعلنوا بوضوح رفضهم بقاء الرئيس إميل لحود بعد انتهاء ولايته. اتفق هؤلاء أن «في لبنان دستوراً يجب احترامه».

هناك خلف البحار كان الرئيسان جورج بوش وجاك شيراك يتصالحان بعد قطيعة الحرب على العراق. جمعتهما الذكرى الستون لانتصار الحلفاء على قوات ألمانيا النازية في النورماندي. في لقاء القمة الذي عقداه، شرّع الفرنسي الوجود الأميركي في العراق ونال مباركة أميركية في معركته التي فتحها مع سوريا. صدر بيان مفاجئ عن القمة، طالب بانسحابها من لبنان، بالرغم من أن شيراك نفسه كان قد اكتفى، في خطاب له في المجلس النيابي اللبناني، بالدعوة إلى إعادة انتشارها. أما الترجمة العملية للقاء، فكانت القرار 1559 الصـادر عن الأمم المتحدة، والذي دعا لانسحـاب القـوات الأجنبية من لبنان ونزع أسلـحة الميليـشيات.

الخرق الذي أحدثه «إعلان بيروت» في الحياة السياسية اللبنانية لم يدم طويلاً. لم تلق الدعوة إلى الإقرار بأخطاء الماضي والتنبّه إلى المصير المشترك من خلال وقف محاولات التفرد والإقصاء، صدى. و «التسوية التاريخية»، التي أمل سمير فرنجية بأن يكون «الإعلان» بدايتها لتأسيس مرحلة جديدة بين اللبنانيين، وصلت إلى طريق مسدود مع ازدياد حدة الصراع بين رافضي التمديد ومؤيديه. وعليه، زاد التلاقي بين الحريري والبطريرك الماروني. حملا لواء حماية الاستحقاق الدستوري. وفشل صفير بإقناع لحود بعدم التمديد، الذي وصفه فرنجية من على درج بكركي بأنه «قرار تفجيري».

سباق التمديد والـ1559

بدا التمديد عنواناً لكل الصراعات القائمة في السلطة. ووضع على حلبة السباق مع القرار 1559. أيهما يسبق ليس مهماً، لكن التقارب الزمني أوحى أن كليهما مسبب للآخر. عقدت جلسة مجلس الأمن ليلاً وأقرت الـ1559. وعقدت جلسة مجلس النواب بعد ظهر اليوم التالي وأقرت التمديد (كانت مقررة سابقاً). صار الصراع أكثر حدة. والتحدي أكثر تجذراً وتدويلاً. بدا التمديد بالنسبة لسوريا عنواناً لمواجهة «الشيطان الأكبر»، خاصة أن البند الرابع من القرار نص على «تأييد عملية انتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية.. يلتزم فيها بقواعد الدستور اللبناني الموضوعة بدون تدخل أو نفوذ أجنبي».

لم تتطرق أدبيات المعارضة ما قبل التمديد والـ1559 إلى الانسحاب السوري. كان أقصى طموحها إعادة الانتشار إلى البقاع. بين القرارين الأممي واللبناني صارت التسوية مع دمشق من الماضي، وبعد محاولة اغتيال النائب مروان حمادة أعلنت «الحرب» عليها، خاصة أن العملية تزامنت مع وصول تهديدات إلى وليد جنبلاط اتبعت بسحب عناصر حمايته.

كان لافتاً أن شارع المعارضة سبق قياداتها إلى معاداة سوريا. عندما عاد عبد الحليم خدام حمادة في المستشفى استقبله الناس بالهتافات المناهضة. صار الصراع على أشده بعد تشكيل حكومة عمر كرامي، لكن مع ذلك لم تكن المعارضة بكل أطرافها قد توحدت تحت مطلب انسحاب سوريا. في اجتماعها في منتصف كانون الأول 2004، انقسم المجتمعون بين مطالب بالخروج الكامل وبين مطالب بإعادة الانتشار. أما المواجهة، فقد أراد الحريري أن تكون أداتها الانتخابات النيابية في ربيع العام 2005، أما الباكورة فتحالف ثلاثي الأضلاع يجمع الحريري وجنبلاط وقرنة شهوان ويقلق الخصوم جدياً، بعدما تبينوا أن حظوظه بالفوز عالية.

اتهام شعبي وارتباك سياسي

وقع الاغتيال في ذروة العمل على تعديل قانون الانتخاب. يستعيد سمير فرنجية البيان الأول الذي صدر من قريطم. لم تتهم سوريا صراحة. اتهامها كان مبهماً، من خلال اعتماد صيغة «النظام الأمني اللبناني ـ السوري». أما المطلب الأساس فكان «لجنة تحقيق دولية». المفصل الآخر، بحسب فرنجية، كان رد الفعل السوري الذي لم يكن على قدر الحدث. انتظرت المعارضة بياناً سورياً يدين أو يستنكر فلم يصدر. يعتبر فرنجية أن بياناً كهذا كان يمكن أن يقطع الطريق على اتهامها، ولأنها لم تفعل وقع الخطأ الأول، أما الخطأ الثاني، فكان ارتباك حكومة كرامي بالتعامل مع الجريمة.

عندما رفعت رايات تدين سوريا، في الجنازة يوم الأربعاء في 16 شباط، لم تكن القيادة السياسية للمعارضة أفضل حالاً من الحكومة. كان الارتباك يحيطها، وكان الناس قد سبقوها وحسموا هوية «القاتل»، فيما هي لم تقطع مع سوريا. وحتى إسقاط الحكومة لم يكن من ضمن أهدافها.

يوم الجمعة كان يوم «الهزة» التي أوصلت إلى «14 آذار». حينها خرج عن اجتماع المعارضة بيان حمل للمرة الأولى شعار «انتفاضة الاستقلال»، علماً أن هذه العبارة أضيفت إلى النص أثناء صياغته النهائية، بعد انقضاء الاجتماع، وخروج المجتمعين ببيان وصفه أهله بالركيك. تتالت المبادرات الأهلية بعدها. تارة ينظم طلاب المدارس تجمعات وتارة تُقام تظاهرة للنساء باللباس الأبيض، بينما في الغرف المغلقة للمعارضة تراوحت الأهداف بين يوم الحداد والثورة الشاملة وما بينهما، إلى أن أنقذ كرامي خصومه بإعلانه الاستقالة، التي لم يكونوا يتوقعونها.

«شكراً سوريا»

في هذا الوقت ظل اسم «حزب الله» بعيداً عن واجهة الانتقاد أو الاتهام. كان الحوار معه أمراً بديهياً، وكان السيد حسن نصر الله قد حلّ معزياً في قريطم. قابلته نازك الحريري حينها بمودّة عكست فيها ما كان يشعر به الرئيس الشهيد حينما كان يعود من لقاءاته مع السيد، فقالت له ما مفاده: كان دائماً أكثر سعادة عندما يلتقيك. أما في السياسة، فقد شهد مقر الأمانة العامة لـ «حزب الله» زيارات دورية لفرنجية ووائل أبو فاعور، حيث كان البحث يتركز على مواجهة أي شرخ داخلي، يمكن أن يعززه انسحاب القوات السورية (أعلن الرئيس بشار الأسد في الأول من آذار 2005 سحب القوات السورية من لبنان على مرحلتين إلى البقاع ومن ثم إلى داخل الحدود السورية).

في الجلسة الأخيرة التي عقدها الثنائي مع السيد حسن نصر الله عشية 8 آذار، سمعا منه حرصاً على انسحاب مشرّف للجيش السوري. وبحسب فرنجية، فإن تظاهرة «شكراً سوريا» قلبت المعادلة، ومهدت للشرخ الذي كان الجميع يخشاه. باختصار، يقول إنه لولا 8 آذار لما كان هناك 14 آذار. في ذلك اليوم التاريخي، نزل الناس إلى الساحة، وخلفيتهم الردّ على «شكراً سوريا» لأنها بمثابة «شكراً على قتل الحريري».

«انتفاضة في الانتفاضة»

لم يساهم الزحف البشري، الذي لم يشهده لبنان قبلاً، إلا في زيادة حالة التيه لدى المعارضة. صار البعض يريد الذهاب إلى قصر بعبدا والبعض الآخر ما يزال مصرّاً على التغيير عبر الانتخابات.

تلك الحالة جعلت الشهيد سمير قصير يكتب في الأول من نيسان عن «انتفاضة في الانتفاضة»، منتقداً تبديد قيادات المعارضة للتعبئة التي أحدثتها التظاهرة، وانتظارهم أسبوعين قبل الاجتماع وتثمين ما حصل في 14 آذار! كما دعاهم إلى «انتفاضة من نوع آخر، انتفاضة على الذات تفتح لحظة انتهاء وصاية حكم البعث على آفاق الدولة العصرية، دولة المواطنين وليس دولة الرعايا». أظهر قصير إلى العلن عدم وجود رؤية واضحة لدى المعارضة، وهو ما ترجم لاحقاً بعودتها إلى العمل السياسي في نطاقه الأضيق. دخلت في الزواريب الانتخابية ساعية إلى النصر، فتأسس التحالف الرباعي، الذي أدى إلى نتيجتين مباشرتين، بحسب فرنجية:

ـــ إقصاء كل التيارات الشيعية التي كانت تدور في فلك «انتفاضة الاستقلال»، ولاسيما الشخصيات التي التقت في «العاملية» و «المنبر الديموقراطي» بزعامة حبيب صادق.

ـــ فتح الباب أمام ميشال عون لبناء حلف استراتيجي مع «حزب الله» في وقت لاحق.

ومن بوابة الحلف الرباعي عاد الجميع إلى اللعب في ملعب السياسة التقليدية الضيقة المبنية على الطائفية والمناطقية. وهكذا، «بعدما كان 14 آذار اليوم الوحيد الذي خرج فيه الناس من ثيابهم الطائفية، بما يعنيه ذلك من بناء اللبنة الأولى لطي صفحة الحرب، عادوا طوائف وجماعات متصارعة، فأنهوا بأيديهم حلم الذين آمنوا بانتفاضة الاستقلال».