عشرات القيادات أزيحت لتعبيد الطريق أمام جبران باسيل. لم يكن رئيس «التيار الوطني الحر» أهمّ أو أذكى أو أبرز من رفاقه أيام النضال والعمل السري، ثم العلني، قبل العام 2005. حينها لم يكن في «التيار» أسماء لامعة وأخرى خافتة. كانوا كتلة متراصة مندفعة للعمل وصادقة في سعيها لإعلاء شأن «التيار» الذي استوعب أحلامهم وطموحاتهم التغييرية. كانوا فريقاً يوزع المهام بين أعضائه، كل بحسب قدرته وخبرته واختصاصه.. وكانت الأولوية للإنجازات لا للبروز الإعلامي. كانوا كلهم يحلمون بوطن أفضل، وكان العماد ميشال عون هو الرمز الذي آمنوا بأنهم تحت جناحيه، قادرون على تحقيق المعجزات.
صفحة جديدة فتحت في العام 2005. قبل وصول عون إلى بيروت تقرر في اجتماع باريسي ترشيح جبران باسيل في البترون وابراهيم كنعان في المتن وسليم عون في زحلة. تلك كانت النقزة الأولى التي تلقاها البعض، وإن لم يحمّلها أكثر مما تحتمل. رأى هؤلاء فيها تأكيداً على تحرر العماد عون من لوثة التوريث، فلم يرشح أياً من ثلاثي آل عون الأكثر قرباً إليه أيام المنفى: نعيم وآلان وجوزف.
في العودة، كان باسيل دائماً إلى جانب عون. نادراً ما تلتقط صورة للعماد ولا يكون فيها صهره، المحب للجلوس إلى جانب عمه الذي بادله الحب نفسه.
صارت الصورة صوراً، وصار العزل واقعاً. من بكركي إلى عين التينة فالضاحية والسرايا، كان جبران موجوداً في الصورة. الأمر نفسه يسري على العلاقات الخارجية وخصوصا مع دمشق وطهران.
في الاجتماعات الأولى لـ «لقاء البريستول» كان «التيار» ممثلاً بزياد عبس وانطوان نصرالله، قبل أن يأتي القرار بإزاحة الاثنين وتسليم الدفة لباسيل. في الاجتماعات التمهيدية لتفاهم «حزب الله» و «التيار» كان باسيل وعبس هما المعنيان بالتنسيق مع الحزب، قبل أن يُخرج عبس رويداً رويداً من الصورة ويبقى باسيل ممسكاً حصرا بملف العلاقة مع الحزب.
ولأنه صار «الرجل الخارق»، لم يكن صعباً عليه أن يمسك بملفين متناقضين. كان بشخصه مسؤولاً عن العلاقة مع السفارة الأميركية في موازاة مسؤوليته عن العلاقة مع «حزب الله». وعلى حد تعبير قيادي سابق في «التيار»، كان جبران «هو الصقر والحمامة معاً»!
بدا مع الوقت كما لو أن لا قيادات في «التيار». قليلة هي الملفات التي لا يمسك بها جبران وقليلة القيادات المنافسة التي لم تُزح أو لم تُقل أو لم تطلها الشائعات المختلفة.
بعد انتخابات المتن الفرعية، كان ألان عون يحضّر للقاء بين العماد عون والرئيس أمين الجميل. حينها أيضاً تدخل جبران واستلم الدفة، ثم صار اللقاء عند الياس أبو صعب!
للمناسبة، يتوقف قيادي سابق مراراً عند طريقة تمويل «التيار». يتذكر أن معظم التمويل كان سرياً في السابق، حيث كان المتبرعون يرفضون كشف هوياتهم. اليوم صار المتمولون أهم من مؤسسي «التيار»، لهم صدر «التيار» ولهم التكريم والعضوية والوزارة والنيابة، وما عليهم سوى التنافس في «المزادات الحزبية».
كل من في «التيار» يعرف أن إمكانيات ضخمة سخّرت لمعركة البترون النيابية في دورتي 2005 و2009، من دون أن يتمكن باسيل من الفوز. الغصة ما تزال كامنة إلى اليوم: «لو أعطي قضاء الكورة، على سبيل المثال، ربع الاهتمام والاموال والخدمات التي حصل عليها قضاء البترون المجاور، لكنا فزنا، خاصة أن الفارق لم يكن أكثر من 1200 صوت، أي أن الفوز كان بحاجة إلى الحصول على، أو تحييد، 600 صوت فقط».
في الحكومة، لم يكن الوضع أفضل. تعطل تشكيل أكثر من حكومة بسبب الإصرار على توزير باسيل شخصياً. بعد انتخابات العام 2009 كان الرئيس سعد الحريري قد اتخذ القرار بعدم توزير «الراسبين»، لكن إصرار عون، استدعى تدخلاً من أعلى المستويات. الرئيس بشار الأسد اتصل بالملك عبدالله طالباً منه التدخل مع الحريري لتوزير «ابن ميشال عون»، وهذا ما حصل، والشهود كثر وأبرزهم سليمان فرنجية.
في العام 2005، أعلن رئيس «التيار الوطني الحر» ميشال عون، محاطاً بمناضلي «التيار»، ولادة «التسونامي» العلماني في وجه النظام الطائفي الفاسد الذي حكم البلد بعد الطائف.
في العام 2015، ماتت علمانية «التيار» واندثر مناضلوه، لكن جبران باسيل وصل. صار رئيساً بلا منافس وأعلن ولادة فرع جديد للنظام الطائفي الفاسد.
بماذا شعر كل لبناني (غير مسيحي) انتمى لـ «التيار» أو شارك في اعتصامات بعبدا في العام 1989، عندما كان يستمع الى خطاب «الرئيس الجديد» في «بلاتيا» أمس؟
الأكيد أنه شعر بغربة كبيرة.. الى حد المرارة والكفر بكل الأحزاب مهما كانت مسمياتها «وطنية» أو «حرة»!