لا داعي للغوص في تشكيل المجلس العدلي ونطاق اختصاصه، ولكن للتذكير فقط، هو محكمة استثنائية، تنظر بالقضايا الجنائية الكبرى التي تنطوي على تهديد للسلم الأهلي، وتحال القضايا اليه بمرسوم من مجلس وزراء، ويعين محقق عدلي للجرائم المحالة اليه، بناء على اقتراح من وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى. والمحقق العدلي تندمج في مرجعيته القضائية صلاحية مرجعيتين قضائيتين، مرجعية قاضي التحقيق ومرجعية الهيئة الاتهامية. أي انه هو الذي يتولى التحقيق وهو الذي يصدر القرار الاتهامي. وهو عندما يضع يده على ملف القضية المحالة الى المجلس العدلي يطبق احكام قانون المحاكمات الجزائية بقواعده الآمرة.
مدخل هذه المقدمة، هو السجال الذي دار وما زال حول جريمة تفجير المرفأ، والتي لأجل التحقيق فيها وكشف ملابساتها، عين قاضي تحقيق باشر مهامه بعد أيام عن تفجير المرفأ، لكنه لم يصل في مهمته الى نهايتها. اذ بعد نيف وستة اشهر، صدر قرار عن محكمة التمييز الجزائية قضى بنقل الدعوى من تحت يده وعلى ان يتولى محقق عدلي اخر التحقيق، وذلك اخذاً بالاسباب التي ادلى بها من طلب نقل الدعوى للارتياب المشروع.
ونحن لا نناقش قرار محكمة التمييز الجزائية، لانه قرار نافذ، ولا يغير من طبيعته النافذة تقديم مراجعة طعن امام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، لانه بعد صدوره، بدأت إجراءات تعيين محقق عدلي اخر وقد حصل ذلك.
ان المحقق العدلي الجديد كما الذي سبقه، سيواجه في سياق عمله بتحديين.
التحدي الأول، هو مواجهة ضغط الشارع الذي يريد الإسراع باجراءات التحقيق والمحاكمة وهو المفجوع بعدد الضحايا وفظاعة التدمير والتهجير.
والتحدي الثاني، هو ضغط الدولة العميقة المعشعشة بالفساد والتي تستنفر قوتها الكامنة في المؤسسات السلطوية ومفاتيح التأثير فيها وعليها لجعل الأسباب تتمحور حول الإهمال الوظيفي.
ان هذين التحديين هما اللذان يجعلان من يقارب هذا الملف في وضع لا يحسد عليه. وان احداً لا يحسد المحقق العدلي على هذه المهمة التي سيتصدى لها، وطبعاً فإن المحقق العدلي هو على قدر على الحصافة والدراية بالامور وهو يضع يده على ملف شائك وصعب وتتجاذبه تأثيرات قوى من الداخل والخارج.
لكن لو كنت محققاً عدلياً، لأبقيت ضغط الشارع خارج اسوار قصر العدل، ولواجهت ضغط الدولة العميقة بالاستقواء بقوة الأصول الدستورية والقانونية وهي التي تنطوي على احترام الأصول الشكلية التي تفسح المجال للعبور الى البحث بالأساس.
ان الشروط الشكلية هي مفتاح باب الدخول للبحث في الأساس، فإن توفرت فتح الباب، وان لم تتوفر بقي الباب موصداً. فالمحقق العدلي الذي رفعت يده عن الدعوى اخطأً عندما وضع نفسه فوق الأصول المفروضة تحت طائلة البطلان بقوة وصراحة النص. وهو باعلانه «بانه بالنظر لهول الكارثة لن يتوقف امام اية حصانة او أي خط احمر»، وقع في خطأ ما كان يفترض ان يقع فيه مهما كان ضغط الشارع قوياً عليه، فضلاً عن هفوة أخرى وقع فيها، وهي الانتقائية في من ادعى عليهم من مسؤولين ووزراء سابقين وحاليين.
ان ملفاً بحجم جريمة المرفأ، الذي مضى اكثر من ستة اشهر على بدء التحقيق به، اذا استمر العمل فيه بنفس المنوال، فالمدة ستطول والمحقق العدلي الجديد سواء اكمل من حيث انتهى سلفه او أعاد التحقيق الى بداياته، سيستغرق وقتاً لانجاز التحقيق والخروج بالخلاصات. لهذا فإن المطلوب هو السرعة دون التسرع..
لو كنت محققاً عدلياً، لوضعت خارطة طريق استناداً الى ثلاثة مسارات متوازية.
المسار الاول، كيف وصلت كمية نترات الامونيوم الى مرفأ بيروت والمقدرة بـ٢٧٠٠ طن، وهذا سهل تتبعه من منبعه الى مصبه.
المسار الثاني، كيف اخرجت شحنات نترات الامونيوم من المرفأ، وأين كانت وجهتها، وهذا سهل معرفته من خلال كاميرات المراقبة التي تغطي احواض المرفأ وحرمه والطرق التي سلكتها. والتأكيد على موضوع اخراج النترات، لان الخبرة الفنية الأولية أفادت ان قوة التفجير ناتجة عن تفجير ٥٠٠ طن تقريباً، فيما الكمية هي ٢٧٠٠ طن، وهذا يعني ان الكمية العظمى منها قد سحبت من العنبر الذي كانت مخزنة فيه.
المسار الثالث، كيف تمت عملية التفجير، وهذا سهل معرفته من خلال شهود العيان وكاميرات المراقبة والاقمار الصناعية ورادارات السفن الراسية في المتوسط.
ان انطلاق التحقيق على هذه المسارات الثلاث، يختصر الوقت اولاً، ويوجه التحقيق نحو المركز المحوري الذي يفترض ان تدور حوله كل الفرضيات التي تستخرج منها الأدلة الدامغة على أسباب شحن النترات وتخزينها وتسريبها ومن ثم تفجيرها.
اما ان يبقى التحقيق يدور حول استجواب العاملين في المرفأ من اداريين وامنيين فهو كمن يبحث عن أشياء فقدها في عتمة ليل ويبحث عنها في بقعة ضوء بعيدة عنها.
لو كنت محققا عدلياً، لكنت استمعت الى العاملين في المرفأ على سبيل المعلومات، ومن تدور حوله شبهة يتم التحفظ عليه سنداً للمادة ١١١ من قانون أصول المحاكمات الجزائية، واذا ما كان بعض الأشخاص العاملين المستمع اليهم كشهود يمكن ان تشكل شهاداتهم خطراً على حياتهم، لطلبت بالاتفاق معهم اتخاذ وتطبيق إجراءات حماية الشهود. ولما كنت قد أقدمت على اصدار مذكرات توقيف بحق المستمع اليهم.
ان استنزاف التحقيق على مدى ستة اشهر بالاستماع والتحقيق مع العاملين في المرفأ وبعض المسؤولين الأمنيين والعسكريين وعلى أهمية الاستنابات التي وجهت الى هيئات غير لبنانية اشخاصاً طبيعيين او معنويين، جعلت الأنظار تنشد الى ما حصل غروب الرابع من آب وكأنه اهمال او تقصير او اخلال بواجبات وظيفية وضمن سياقه جاء الادعاء على وزراء لم تراع أصول الادعاء عليهم.
لو كنت محققاً عدلياً، لأخليت سبيل كل الموقوفين، ولجعلت التحقيق يتمحور بشكل أساسي على المسارات التي جرت الإشارة اليها، لا ان يستنزف الوقت في التحقيقات مع الإداريين والامنيين التي يمكن ان تجريها الضابطة العدلية. ولكنت وجهت التحقيق باتجاه عناصره الجرمية الجنائية وليس بالدوران حول عناصره الجناحية او المخالفات، لان إحالة قضية الى المجلس العدلي تفترض وجود جرم جنائي، انطلاقاً من كون المجلس العدلي هو محكمة ينعقد اختصاصها للنظر بالقضايا الجنائية الكبرى التي تنطوي على تهديد للسلم الأهلي.
ومما لا جدال حوله، هو ان التحقيق يفترض ان يبقى محاطاً بالسرية، لكن الذي ظهر ان كثيراً من معطياته كان يسرب، وان الصحافة الاستقصائية لعبت دوراً في كشف كثير من خبايا التحقيق، وهذا وان كان يريح الرأي العام بعدما تحولت الجريمة الى قضية رأي عام، الا انه كان في الوقت نفسه يضغط على التحقيق والمحقق.
لو كنت محققاً عدلياً، لنظمت اطاراً للتواصل مع الصحافة الاستقصائية التي تساعد التحقيق في الوصول الى مآلاته في نطاق السرية المفروضة، لا ان يكون دورها ممارسة تحقيق موازٍ، لا يخضع للمعايير والأصول القانونية، بحيث يؤدي ذلك الى ارباك التحقيق ولو بحسن نية.
لو كنت محققاً عدلياً لوجهت التحقيق باتجاه عناصره الجرمية الجنائية وليس باتجاه عناصره الجرمية الجنحية او المخالفات، لان جريمة تفجير المرفأ وان لم تنطبق عليها صفة تهديد السلم الأهلي بالمعنى التقني للوصف، الا انها بما اسفرت عنه من نتائج هي جريمة ضد الإنسانية، وبالتالي هي جريمة بحق الشعب والبلد. وجريمة تدمير بنية وطنية، توازي في خطورتها الجرائم التي تعتبر مهددة للسلم الأهلي.
لو كنت محققاً عدلياً، وتوصلت الى كشف كل ملابسات الجريمة وفاعليها الأساسيين من لحظة الشحن الى لحظة التفجير، لاختليت مع نفسي ووازنت بين خيارين.
خيار، اصدار قرار اتهامي يتسم بالشمولية بوقائعه المادية واسانيده القانونية، ينطوي على تسمية الأشياء بمسمياتها وخاصة لجهة الفاعلين الأصليين والمشاركين والمتدخلين والمستفيدين. وهذا الاتهام سينطوي على مخاطرة، لانه يكشف حقيقة ممنوع الوصول اليها وهي تحرق كل من يقترب منها، كما تقول الأسطورة الاغريقية «كوم إي كار»، ولهذا فإن اصدار القرار الاتهامي ينطوي على عمل بطولي بكل المقاييس القانونية والأخلاقية والإنسانية.
وخيار، عدم اصدار القرار بعدما استكملت كل معطياته خوفاً من نار الحقيقة.
لو وضعت امام هذين الخيارين لاخترت الأول، لان من يضع يده على ملف بحجم ملف تفجير المرفأ وما تولد عنه من نتائج كارثية يفترض ان تتوفر فيه فضلاً عن مناقبيته القضائية، الوقوف في حضرة الضمير أولاً، واستحضار معطى شخصية البطل والفدائي ثانياً.
لست محققاً عدلياً، بل مجرد مواطن يطرح رؤية افتراضية ويعبر عن الم ووجع الناس الذين فجعوا باعزاء على قلوبهم ونكبوا بحياتهم وهم ينظرون وينتظرون العدالة التي ستصدر حكمها باسم الشعب.
نثق بالمحقق العدلي ونقول فيه بطلاً وفدائياً، ونتمى له التوفيق وكان الله في عونه.