IMLebanon

الحقيقة .. بين مؤيدي البيطار ومنتقديه

 

 

لبنان يفقد مقومات الحياة البديهية… لا كهرباء، لا مياه، لا بنزين، لا مازوت، لا دواء. محطات الكهرباء متوقفة، مراكز ضخ المياه لا تعمل قسراً، المستشفيات في حالة الخطر الداهم، العملة الوطنية تتلاشى، الأمن الغذائي أسير الإنهيارات المتلاحقة، والنظام التربوي أصيب بعُطب مدمّر، ومعدلات الفقر في إرتفاع مستمر، ومرفأ بيروت يستعد لوداع العام الأول على التفجير الزلزالي الذي دمره وحصد أرواح مئات الضحايا الأبرياء، وأدى إلى تهديم آلاف المنازل.

 

هذه اللوحة المأساوية توحي وكأن البلد على طريق الإفلاس والزوال بصيغته الفريدة ونظامه المميز، في ظل العجز المتمادي لأهل الحكم في الحد من الإنهيار، والاكتفاء بالاجتماعات العقيمة، والثرثرات الإعلامية الفارغة، والتفنن بأساليب الإنكار والمراوغة في التعامل مع الداخل والخارج على السواء.

 

الفشل السياسي لم يقتصر على عدم القدرة على تشكيل الحكومة العتيدة وحسب، بل وصل إلى كل ما له علاقة بوقف دوامة الإنحدار التي يتخبط فيها البلد منذ إندلاع إنتفاضة ١٩ تشرين ٢٠١٩، والتوغل في العزلة التي يعيشها أهل الحكم، بعدما ضربوا بأصول الحفاظ على العلاقات مع الأشقاء والأصدقاء عرض الحائط، ومقاطعة الصناديق والمؤسسات المالية العربية والدولية.

 

من مهازل سلطة هذا الزمن الرديء أنها أتقنت فنون إلهاء الناس عن نقمتهم ضد السلطة، بمشاكلهم المعيشية اليومية، من قطع الكهرباء وفقدان المحروقات، إلى قرارات القاضي طارق البيطار الأخيرة، التي زادت الصراعات السياسية إشتعالاً، وطرحت عدة تساؤلات والتباسات.

 

في المبدأ من حق اللبنانيين، وخاصة أهالي الضحايا والمتضررين من الإنفجار الرهيب في المرفأ أن يعرفوا حقيقة ما جرى، ومن يتحمل مسؤولية هذه الكارثة الوطنية، سواء في إستيراد الامونيوم والتغطية على وجوده في المستودع المشؤوم، أو الإهمال في إتخاذ الإجراءات اللازمة للتخلص من خطر هذه المادة المدمرة.

 

ولكن القرارات الصادمة للقاضي البيطار أثارت إنقساماً، مثل العادة، بين اللبنانيين، حيث أبدى البعض تأييداً حماسياً للخطوة التي اتخذها المحقق العدلي على طريق كشف الحقيقة، فيما شكك آخرون بحسن نية البيطار في طلبات رفع الحصانة عن النواب علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق، واللواء عباس إبراهيم واللواء أنطوان صليبا، والعماد جان قهوجي، والوزير السابق يوسف فنيانوس.

 

المؤيدون نزلوا إلى الشارع، وفي مقدمتهم عائلات الضحايا، مطالبين الرئيس نبيه بري والوزير محمد فهمي بالتجاوب مع طلبات البيطار برفع الحصانات. واعتبروا أن المسألة تتجاوز الحصانات النيابية والوظيفية، التي وجدت أصلاً لحماية النائب والموظف في تأدية المهمات المناطة بكل منهما، ولا تنطبق على متطلبات التحقيق في كارثة بحجم إنفجار المرفأ.

 

القاضي طارق البيطار تحوّل، بالنسبة للمؤيدين، إلى «بطل وطني» يتحدى المنظومة السياسية بمكابرتها وتواطئها وجبروتها، ويحاول إختراق قلعة الفساد التي يحتمي خلف جدرانها أهل السياسة والسلطة في لبنان.

 

أما المشككون فهم لم يغفلوا وجود دوافع سياسية وراء «استهداف فريق سياسي معين» ومحاولة تحميله مسؤولية نكبة المرفأ وتداعياتها البشرية والحضرية التي أصابت العاصمة، ولا سيما المناطق والمؤسسات والمنازل التي تقع ضمن شعاع الإنفجار.

 

يطرح المشككون تساؤلات حول الإلتباسات المحيطة بتوقيت ومضمون قرارات المُلاحقة ورفع الحصانة، من زاوية إقتصارها على رموز فريق سياسي معارض للعهد، أي «حركة أمل» و«تيار المردة»، وشخصيات ليست على علاقات ودية مع رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، مثل العماد قهوجي واللواء إبراهيم.

 

ويتساءل أصحاب هذا الموقف عن المبررات التي حالت دون إستدعاء مدير المخابرات السابق والحالي، على إعتبار أن جهاز المخابرات هو المرجعية الأمنية الأولى في المرفأ، ويُشرف على تفاصيل الحركة دخولاً وخروجاً.

 

ولماذا اكتفى المحقق العدلي بملاحقة قائد الجيش السابق، ولم يستدع قائد الجيش الحالي؟

 

وكيف إقتصرت مسؤولية وزارة الداخلية على الوزير السابق نهاد المشنوق، ولم تشمل الوزير الحالي محمد فهمي؟

 

وماذا بالنسبة لأصحاب الباخرة، وملابسات تعطلها وغرقها، ثم إعادة تعويمها من جديد؟

 

ومَن المسؤول عن وضع المفرقعات بجوار الأمونيوم في العنبر رقم ١٢?

 

ويُعيد المشككون إلى الأذهان أن ترقية القاضي البيطار الإستثنائية، والتي تجاوزت التراتبية المعمول بها في السلك القضائي، قد تمت في التشكيلات المعروفة التي أجراها وزير العدل السابق سليم جريصاتي في حكومة الرئيس الحريري الأولى في هذا العهد.

 

المشكلة أن هذه القضية على خطورتها الوطنية، وحساسيتها الأمنية، تحولت إلى محور للمزايدات والخطابات الشعبوية، والتراشق بالإتهامات الكيدية، مما يُهدد بضياع الحقيقة في جريمة العصر، كما ضاعت الحقائق في جرائم أخرى!