تحاول السلطة الحاكمة جاهدةً تمييع ملفّ انفجار المرفأ والالتفاف عليه، بالاستناد إلى المادة 18 من القانون 13/1990، والمتعلقة باتهام رؤساء الحكومات والوزراء لارتكابهم جريمة الخيانة العظمى او لاخلالهم بالموجبات المترتبة عليهم، فيما الجرائم المنسوبة إلى هؤلاء، تتعدّى صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، لكونها تذهب في اتجاه شبهة جرائم عادية منصوص عليها في قانون العقوبات اللبناني تتعلّق بالقتل على أساس القصد الاحتمالي، والتي تعني توقّع المتهم حصول النتيجة الجرمية وقبوله المخاطرة، حيث تنص المادة 547 عقوبات على أن من قتل انساناً قصداً عوقب بالأشغال الشاقة من خمس عشرة سنة الى عشرين سنة، وتنص المادة 189 عقوبات على أنّ الجريمة تعدّ مقصودة وإن تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل أو عدم الفعل قصد الفاعل اذا كان قد توقّع حصولها فقبل بالمخاطرة.
كما ينطبق على جريمة المرفأ وصف جرم إرهاب وحيازة مواد متفجّرة المنصوص والمعاقب عليها في المواد 312 و314 و315 عقوبات، حيث تنصّ المادة 312 عقوبات على أنّ من أقدم بقصد اقتراف أو تسهيل أي جناية ضد الدولة على صنع أو اقتناء أو حيازة المواد المتفجرة أو الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة أو الأجزاء التي تستعمل في تركيبها أو صنعها يعاقب بالأشغال الشاقة الموقتة؛ فيما تنص المادة 314 عقوبات على أنه يعنى بالأعمال الارهابية جميع الأفعال التي ترمي الى إيجاد حالة ذعر وترتكب بوسائل الأدوات المتفجرة والمواد الملتهبة والمنتجات السامة أو المحرقة والعوامل الوبائية أو الميكروبية التي من شأنها أن تحدث خطراً عاماً؛ وتنص المادة 315 عقوبات على أنّ المؤامرة التي يقصد منها ارتكاب عمل أو أعمال ارهاب يعاقب عليها بالأشغال الشاقة الموقّتة. وكل عمل ارهابي يستوجب الأشغال الشاقة المؤبدة اذا نتج عنه التخريب ولو جزئياً في بناية عامة أو مؤسسة صناعية أو سفينة أو منشآت أخرى أو التعطيل في سبل المخابرات والمواصلات والنقل، ويقضى بعقوبة الاعدام اذا أفضى الفعل الى موت انسان أو هدم البنيان بعضه أو كله وفيه شخص أو عدة أشخاص.
وبالتالي، فإنّ محاولة النواب إحالة القضية أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء، والذي هو هيئة خاصة، يصفها رجال القانون بالقضاء السياسي، هي محاولة خائبة، لأنّ المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء المنشأ في 1990 لم ينعقد يوماً، وثمة استحالة في تكريس الاتهام في مجلس النواب بنصاب الثلثين، تمهيداً للمحاكمة أمام المجلس الأعلى تبعاً لآلية قانون إنشائه، ما يعني أنّ العريضة النيابية ترمي فقط إلى التشويش على عمل المحقق العدلي وإلى تهريب المشتبه بهم من قبضته، لصالح محكمة وهمية؛ في حين أن جرائم الإرهاب وقتل المواطنين هي جرائم عادية لا تتعلق بممارسة رئيس الوزراء والوزراء لواجباتهم الوظيفية، لا سيما وأن الهيئة العامة لمحكمة التمييز اللبنانية أصدرت قرارها التاريخي في 27/10/2000، بتوسيع دائرة الجرائم العادية، بحيث لم تعد تقتصر على الجرائم التي يرتكبها الوزير في حياته الخاصة، وإنما تمتدّ إلى الأفعال التي يرتكبها الأخير في مَعرض ممارسته لمهامه الوزارية، ومنذ ذلك الوقت استقر اجتهاد محكمة التمييز الجزائية على التعريف للجرائم العادية. الأمر الذي يحول دون منع القاضي بيطار من اكمال مسيرته ضمن إطار الملف القضائي الذي يتولاه، بحجة وجود عريضة نيابية تسعى حقيقةً إلى تمويه العدالة وتجهيل الفاعلين وعدم إحقاق الحق.
أما بالنسبة لحديث البعض عن ملاحقة رئيس الجمهورية فتنص المادة 60 من الدستور على أنّه لا يمكن اتهام الأخير بسبب الجرائم العادية أو لعلّتي خرق الدستور والخيانة العظمى، إلاّ من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه، ويحاكم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء؛ أي أنّه لا يمكن أن يصدر الإتهام على رئيس الجمهورية إلا عن سلطة حصرية هي المجلس النيابي، ولا يمكن محاكمته إلا أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
كما تبقى هنالك مشكلة الحصانة النيابية، لكن إذا رفض المجلس النيابي رفع الحصانة عن النواب، فللمحقق العدلي أن ينتظر نيل الحكومة الجديدة الثقة لملاحقتهم فوراً، لأن لا حصانة نيابية خارج دورات الانعقاد، فالمجلس راهناً في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة عملاً بأحكام الفقرة 3 من المادة 69 من الدستور، لكن في حال تشكيل الحكومة الجديدة وفور نيلها الثقة لا يعود هناك دورة انعقاد ولا حصانة، ويجوز حينها للمحقق العدلي ملاحقة الوزراء السابقين من النواب بدون حاجة لأخذ الإذن من أحد، ما لم يكن المجلس النيابي قد دخل في دورة الانعقاد الثانية العادية المقرّرة في يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس من شهر تشرين الأول المقبل عملاً بأحكام المادة 32 من الدستور، الأمر الذي يفرض على المحقق العدلي حينها الانتظار حتى انتهاء هذا العقد، أي إلى آخر السنة، وذلك حتى يتمكّن من ملاحقة النواب المدعى عليهم من دون الحاجة لأخذ الإذن بالملاحقة.
أما في ما يتعلّق باقتراح الرئيس سعد الحريري بتعليق المواد الدستورية والقانونية كافة التي تمنح حصانة أو أصول محاكمة خاصة لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء والنواب والقضاة، لكي يصبح المحقق العدلي هو المرجع الحصري للنظر في ملف انفجار المرفأ، فإنه اقتراح محمود، غير أنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن لا حصانة لرؤساء الحكومة والوزراء السابقين في ملف انفجار المرفأ، باعتبار أن الجرائم المرتكبة هي جرائم عادية وليست جرائم متعلقة بالاخلال بالواجبات الوظيفية، ذلك أن ارتكاب جرائم القتل والإرهاب لا تمت للوظيفة الوزارية بصلة. كما أنّ الاجتهاد مستقر على أنّ الأفعال الجرمية التي يقترفها الوزراء في معرض ممارستهم لمهامهم الوزارية، هي جرائم عادية وتخضع للقضاء العادي.
أما بالنسبة لمحاكمة رئيس الجمهورية أمام المجلس العدلي ورفع الحصانة عن النواب أثناء دورات انعقاد المجلس النيابي فتتطلّب تعديلاً للدستور، لا سيما المادتين 40 و60 منه، الأمر الصعب المنال، فصحيح أنّ المادة 77 من الدستور تنص على حق مجلس النواب خلال دورة انعقاد عادية وبناء على اقتراح عشرة من أعضائه على الأقل، أن يبدي اقتراحه بإعادة النظر بالدستور بأكثرية الثلثين من مجموع أعضائه، إلا أن هذه المادة تفرض أن يبلّغ المجلس النيابي الاقتراح للحكومة طالباً منها وضع مشروع قانون في شأنه، وأن توافق الحكومة على هذا الاقتراح بأكثرية الثلثين وأن تضع مشروع التعديل وتطرحه على المجلس النيابي. وفي حال عدم موافقة ثلثي اعضاء الحكومة، يجب أن يصرّ المجلس النيابي على التعديل بأكثرية ثلاثة أرباع مجموع أعضائه، وأن يقوم رئيس الجمهورية بإجابة الطلب. وبالتالي، فإنّ تعديل المواد الدستورية المتعلقة بالحصانات شبه مستحيل في لبنان، غير أننا نشدّ على يدي الرئيس الحريري لجهة تقديمه اقتراح قانون يعلّق الحصانة عن القضاة والموظفين ويعلّق أصول المحاكمة الخاصة بالقضاة، لأن ذلك لا يثير أي إشكالية، ولا يتطلّب تعديلاً للدستور، وهو اقتراح يمكن أن يمرّ.
ختاماً، صوناً لدماء الشهداء وحفاظاً لكرامات أهاليهم، يجب إبعاد كل محاولات السلطة السياسية الرامية للالتفاف على ملفّ المحقق العدلي، ولا سيما أنّ المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء لم ينظر حتى تاريخ اليوم في أي قضية، ومن المرجّح أن لا ينظر.