تصاعدت حدة المبارزة بالسلاح القانوني – السياسي بين المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار والمعترضين على مُجمَل تعاطيه مع هذا الملف. والأخطر أنه بات يُخشى من تداعيات وانعكاسات للنزاع المتفاقِم على الواقع الداخلي الهَش الذي يكاد لا يتحمّل اختبارات جديدة تضاف الى لائحة طويلة من التحديات القاسية.
إحتدمت المواجهة بين البيطار و«المُرتابين» في سلوكه ونيّاته، وذلك على وَقع مذكرات التوقيف الصادرة عنه تباعاً، والتي رَست إحداها أمس عند النائب علي حسن خليل بعد الوزير السابق يوسف فنيانوس، فيما كان منتظراً ان يصل الدور توالياً على الرئيس حسان دياب والنائبين غازي زعيتر ونهاد المشنوق، لو لم تكف يد القاضي «مَرحلياً» الى حين البَت في الدفعة الجديدة من طلبات الرد المرفوعة في حقه.
وقد أعطى الهجوم المباشر الذي شنّه الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله على طريقة عمل البيطار اشارة واضحة الى انّ آخر القفازات خُلعت في هذه المعركة، التي باتت تدور وجهاً لوجه بين مجموعة قوى سياسية متفاوتة الالوان من جهة والمحقق العدلي من جهة أخرى.
والارجح انّ الآتي سيكون اعظم ما لم يحصل تطور او تحوّل يعدل في مسار القضية ليذهب نحو أحد الاحتمالات الآتية:
– تغيير البيطار نمط مقاربته لملف انفجار المرفأ وتعديل استراتيجيته في التحقيق والملاحقة، وهذا امر لا يبدو وارداً حالياً، كما يتبيّن من مذكرة التوقيف التي صدرت في حق خليل غداة خطاب السيد نصرالله. وبالتالي، فهو اذا «نجا» من محاولة إقصائه مرة أخرى سيحصل على جرعة من المقويّات وسيواصل نهجه حتى «النهاية المجهولة».
– قبول الغرفة الأولى في محكمة التمييز المدنية برئاسة القاضي ناجي عيد دعوى الرد المتجددة المقدمة من قبل المدعى عليهما خليل وزعيتر، وصولاً الى تنحية البيطار عن القضية واستبداله بقاض آخر، ما يسمح بنزع فتيل التصعيد، وهذا احتمال غير محسوم في انتظار البت بالدعوى.
– تراجع القوى السياسية عن سقفها المرتفع وقبولها بالتجاوب مع إجراءات البيطار، وهذه فرضية تبدو مستحيلة في الوقت الحاضر.
وما يزيد هذا الملف القضائي – السياسي تعقيداً هو أنه آخِذ في الغليان فوق الصفيح الساخن للانتخابات النيابية التي بدأت تحتلّ حيّزا واسعا من اهتمام المكونات الداخلية، ومن المتوقع ان ترتفع حرارته اكثر فأكثر كلما اقترب موعد فتح صناديق الاقتراع، حيث يخشى البعض من ان يتم زَجّه في مَعمعة الحملات الانتخابية وما يرافقها من لعب غير نظيف في سبيل حصد المقاعد النيابية، خصوصاً اذا صدر القرار الظني على مقربة من موعد الاستحقاق النيابي.
والى حين اتّضاح المسار الذي سيتخذه النزاع على الجبهة القضائية، تبعاً لما ستقرره محكمة التمييز، تواصل الجهات السياسية المعنية هجومها المضاد على محاور عدة، لتطويق القاضي وصَد «تدابيره التعسفية» وفق اقتناع تلك الجهات.
وعُلم انّ الرئيس نبيه بري التقى أخيرا وزير العدل هنري خوري، وأبلغ اليه انّ ما يجري في ملف انفجار المرفأ غير مقبول وغير قانوني، شارحاً مكامن الخلل الفادح في سلوك البيطار، ومُنبّهاً الى انّ الاستمرار في هذا المنحى التسييسي والاستنسابي على حساب الحقيقة والعدالة قد يكون له تداعيات سيئة على الحكومة والبلد.
كذلك تواصَل بري مع احد المسؤولين القضائيين الكبار، وعرض معه خطورة الاتجاه الذي يعتمده المحقق العدلي، مشيراً الى انه لم يحصل ان صادفَ أمراً من هذا النوع طيلة فترة تجربته كمحام ووزير للعدل.
وهناك من لا يستبعد ان يلجأ بري الى إعادة ترشيح خليل وزعيتر الى الانتخابات النيابية المقبلة لاعتبارات عدة، من بينها تثبيت موقعيهما في مواجهة ما يشعر انها محاولة مغلّفة بـ»قشرة قضائية» للانتقام السياسي منه عبر التصويب عليهما.
وانتقلت الأزمة مع البيطار الى مجلس الوزراء المُعرّض مبدئياً لاختبار صعب يتعلق بالموقف الذي سيتخذه، وسط اعتراض مكونات اساسية في الحكومة على نهج المحقق العدلي ومطالبتها بإقصائه، لا سيما ان مجلس الوزراء هو الذي أحال قضية انفجار المرفأ الى المجلس العدلي، وهنا سيكون رأي كل من رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس نجيب ميقاتي تحت المجهر.
على المقلب الآخر، يوحي البيطار حتى الآن انه ليس في وارد التراجع قيد أنملة عن مساره مهما كان الثمن، مستنداً الى اجتهاداته القانونية، وتغطية جزء واسع من القضاء له، والدعم الذي ناله من اوساط الدولية، واقتناعه بأنه يحظى بتأييد غالبية الرأي العام ومعظم اهالي ضحايا الانفجار. وغالب الظن ان القاضي سيتابع توجيه الضربات تحت الزنار، اذا لم يتم استبعاده، بعدما اكتسبت المواجهة مع خصومه طابع التحدي، وقد ينتهي به المطاف إلى اصدار قرار ظني ضد المدعى عليهم قريباً، ليبدأ بعد ذلك الفصل الآخر من الرواية في المجلس العدلي.
لكن، لا بد اولاً من انتظار مَآل المد والجزر بين البيطار وخصومه في المضمار القانوني، وسط تلاحق طلبات الرد والارتياب المشروع وقرارات ردها من قبل المراجع القضائية، وصولاً الى الدعوى الأخيرة وترقّب القرار الذي سيصدر في شأنها، حتى باتت تصح في هذا الكر والفر المعادلة الآتية: «طار طارق… غَط البيطار».
ويبقى السؤال الأهم وسط كل هذا التجاذب: هل «الحقيقة الصافية» تقترب أم تبتعد؟