ما حصل مع القاضي البيطار يُنبئ بأنّنا قد دخلنا في المحظور القضائي. ولقد بات واضحاً من التوجيهات التي أعطاها نصرالله في خطابه أوّل من أمس أنّه تبنّى ضمنيّاً ما أقدم عليه مرسَلُه وفيق صفا الذي هدّد القاضي البيطار بشكل واضح واتّهمه باللاعدالة واللاحقيقة. فهل سيكمل القاضي البيطار عمله القانوني رغماً عن أنف قوّة السلاح وتهديداته؟
لا يبدو بأنّ القاضي البيطار سيرضخ للتهديدات التي باتت بشكل علنيّ. والدّليل أنّه أصدر مذكّرة توقيف بحقّ الوزير علي حسن خليل، تماماً كما أصدرها بحقّ الوزير فنيانوس قبل أن يتبلغ دعوى كفّ يده ويوقف التحقيقات حتى صدور قرار محكمة التمييز التي يرأسها القاضي ناجي عيد.
وما لم تفهمه هذه المنظومة بعد هو بأنّ قاضي التحقيق العدلي لديه صلاحيات خاصّة. فهو قاضٍ استثنائيّ والدّليل أنّه استطاع أن يحقّق مع أمنيين وعسكريّين في حين أنّ المحكمة العسكريّة موجودة.
فما من عاقل يقبل من الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله بأن يطلب من القاضي البيطار التنحّي عن ملفّ التحقيق في جريمة المرفأ. فهذا حديث سياسي بامتياز. لأنّ الأخير يخاطبه بوصفه فاعلاً سياسيّاً في المجتمع السياسي اللبناني وليس تحت أيّ صفة أخرى. ومن غير المقبول التلميح بالعمالة بعد اليوم. فهذه تهمة فاقدة الصلاحيّة، لا سيّما بعدما بانت حقيقة هويّة شبكة العملاء الذين تمّ توقيفهم في زمن المغفور له اللواء وسام الحسن. فضلاً عن هويّة مَن يفاوض العدوّ الإسرائيلي سرّاً وعلناً اليوم.
إذاً هذه التهم كلّها ساقطة. وحتّى لو لم يقرّ قانون استقلاليّة القضاء، القضاة النزيهون يقولون الحقيقة مهما كانت صعبة. وهذا ما يحصل تماماً مع القضاة الذين نظروا بطلبات الردّ. وهذه بارقة أمل، لا بل نبض حياة. فحيث يطبّق القضاء المستقلّ القانون فهذا مؤشّر إلى أنّ البلد بألف خير. وهنا الخشية من الانقضاض على الصرح القضائي لتقويضه بقوّة السلاح. وهذا ما يبدو حتّى هذه اللحظة صعباً، كي لا نقول مستحيلاً.
من هنا، استمرار التحريض ضدّ القاضي البيطار. فحتّى وجع أهالي الشهداء لم يُوَفَّرُ استعماله. فقد حرّضهم علناً ضدّ القاضي البيطار مدّعياً بأنّه يعمل بالسياسة ويوظّف دماء الشهداء للإستهدافات السياسيّة، مهدّداً بأنّ هذه القضيّة ستكون لها تداعيات على مستوى البلد لا سيّما بعد اصطدام حلم تنحية البيطار بجدران محكمة التمييز المدنيّة وقبلها محكمة استئناف بيروت. ما يعني الانتقال إلى الخطّة البديلة.
هذه الوقائع كلّها تنبئ بأنّ القاضي البيطار ماضٍ بعمله القضائي من دون التأثّر بالترهيب العلني الذي يمارَس عليه. ولا يجهد “حزب الله” لتبرئة نفسه من التهديد المفضوح الذي مارسه عبر مسؤوله الأمني بحقّ القاضي البيطار، وهذه دلالة على انتشائه بفائض قوّة السلاح. وهذه المسألة سرعان ما انقلبت عليه. فلماذا هذا الاستشراس لـ”قبع” القاضي البيطار؟ فهو حتّى لم يوجّه أيّ اتّهام للحزب. فما الذي يخشاه نصرالله وحزبه؟
مع الإشارة إلى أنّ المادة 97 من النظام الداخلي لمجلس النواب الصادر في 18 تشرين الأول 1994، تنصّ على أنه “إذا لوحق النائب خارج دورة الانعقاد، تستمر الملاحقة في دورات الانعقاد اللاحقة من دون الحاجة الى طلب إذن المجلس النيابي”. وهذا يعني عمليّاً بأنّ المحقّق العدلي لن يتوقّف عند موضوع الحصانات، وسيستند الى المادة 97 الواضحة والصريحة. فمن الناحية القانونيّة القاضي البيطار ماضٍ في عمله، ولن تثنيه أيّ من محاولات التحايل على المدد القانونيّة لدورات انعقاد المجلس النيابي. وهذا ما يؤشّر بأنّ سبل المواجهة القانونيّة مع القاضي البيطار قد استنفدت جميعها.
أمّا بالحديث عن غير السبل القانونية، فهذه المسألة مناطة بالعمق الذي غطست فيه هذه المنظومة مع منظّمتها المسلّحة في قضيّة تفجير مرفأ بيروت. ومَن يدرك طبيعة تصرّفهما يدرك مدى الخطورة التي بات فيها القاضي البيطار. وعلى ما يبدو أنّه كلّما اقترب من إصدار قراره الظنّي كلّما سيستشرس أكثر هذا الثنائي؛ ومَن يعلم إذا ما قد يستخدمان هذه الواقعة كذريعة أمنيّة لتطيير الانتخابات النيابيّة المرتقبة برمّتها. فيكونان بذلك قد ضربا عصفورين بحجر أمنيّ واحد.
حمى الرّبّ القاضي البيطار، وسرّع خطواته لإصدار القرار الظنّي، ليُصار بعدها إلى استكمال القضيّة. بغضّ النّظر عن التجارب غير المشجّعة في القضاء اللبناني الذي لم يخلُ بعد من القضاة النزيهين. والأمل كلّ الأمل اليوم بالحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار الأمني وصولاً إلى الانتخابات النيابيّة لأنّها الباب الوحيد للتغيير السلمي. وإلا ستُقرَعُ أبواب أخرى نحن بغنى عنها، لكنّنا لم نعد بمنأى منها. والشاطر يفهم!