يقف البلد حالياً بين حدّي معادلتين متضاربتين: الأولى «إما الحكومة وإما القاضي طارق البيطار»، بينما تحاول الثانية أن تجترح «تسوية سيامية» برأسين، تجمع بين استمرار الحكومة وبقاء البيطار.
لكن، ومع إراقة الدماء في الطيونة يوم الخميس الأسود، ازداد المأزق السياسي – القضائي تعقيداً وحدةً ليصبح ثلاثي الأبعاد. ويستشعر الرئيس ميشال عون حراجة الموقف، بعدما أُصيبت حكومة العهد الأخيرة بـ»جلطة» مفاجئة قبل أن يشتد عودها وتقوى مناعتها، ما أدّى إلى شللها وتوقفها عن الانعقاد، فيما ملفات كثيرة تتراكم على طاولتها.
ويحاول عون المواءمة بين الماء والزيت، عبر السعي الى الإبقاء على الحكومة والبيطار معاً، بالترافق مع ابتكار ضمانات وتطمينات لإراحة القلقين ومعالجة مخاوفهم.
لكن هذه المهمة أصبحت أشدّ صعوبة بعد وقوع مجزرة الطيونة التي صبّت الدم على الأزمة مع البيطار، بحيث لم يعد من السهل على «حزب الله» وحركة «امل» خفض سقف المواجهة ضدّه، أو القبول بتسوية شكلية حول التحقيق الذي يتولاه، خصوصاً انّ لدى الحزب معلومات تفيد أنّ هناك اتجاهاً للزج باسمه في القرار الاتهامي الذي يحضّره المحقق العدلي، استناداً الى شهود زور «مُعلّبين»، وذلك لاستغلال قضية انفجار المرفأ الشديدة الحساسية من أجل التصويب عليه في معركة الانتخابات النيابية، وهذا ما دفعه الى تنفيذ هجوم «دفاعي» واستباقي لحماية نفسه بعد إنذارات متدرجة.
ولئن كان القصر الجمهوري يتفهم بعض هواجس الحزب ومآخذه على مسار التحقيق، إلاّ أنّه يرفض كلياً إقصاء البيطار عن الملف، لاقتناعه بانتفاء المصلحة وبتعذر إستبداله عبر قرار سياسي، «إنما مع الاخذ في الاعتبار ضرورة تبديد مخاوف المعترضين على سلوكه، عبر اقتراح مخارج ممكنة ترمي الى تدوير الزوايا على قاعدة لا يموت الديب ولا يفنى الغنم».
وما يزيد القصر تحسساً حيال المطالبة بإزاحة البيطار، تحسبه للتداعيات التي قد تترتب على تنحيته، خصوصاً انّ القاضي المعني يحظى باهتمام دولي غير مسبوق، تعكسه الرسائل العابرة للحدود ومواقف الزوار الأجانب الذين يحرصون على إبداء الدعم والتأييد له خلال لقاءاتهم مع عون، وبالتالي فإنّ هناك بين المحيطين بالرئيس من ينبّه الى انّ اي قرار متهور بإزاحة البيطار ربما يجرّ على لبنان «عقوبات جهنمية»، وهذه التبعات المحتملة ناقشها موفد رئاسي مع جهة رفيعة المستوى في «حزب الله»، مؤكّداً أمامها انّ هناك ضرورة للتنبّه والحذر وعدم الذهاب بعيداً في محاربة البيطار او في الضغط على الحكومة الى حدود تطييرها، «لأنّ ذلك يعني استعداء كل المجتمع الدولي وخسارة فرصة الحصول على دعم خارجي ومساعدات من صندوق النقد للنهوض بالاقتصاد المنهار، اما اذا كانت لديكم خشية من ان يصيبكم القرار الاتهامي، فلا يوجد بعد اي دليل يؤشر إلى ذلك».
وفي حين يشكّل الاحتضان الخارجي للبيطار أحد الأسباب الأساسية لارتياب «حزب الله» وحركة «أمل» في نياته، ولاتهامه بالتسييس والاستنسابية في التحقيق، تلفت دوائر بعبدا الى انّ موقف المجتمع الدولي ينبع من كونه لا يستطيع أن يتفهم او يتقبّل إقصاء البيطار مجدداً، عقب تغاضيه سابقاً عن تنحية القاضي فادي صوان قبله، «وهو لا يجد تفسيراً أو مبرراً للاستمرار في محاربة المحقق العدلي الحالي ولرفض المدّعى عليهم المثول امامه».
وعلى المنوال نفسه، يتمسك القصر بحكومة ميقاتي، وينبّه الى خطورة التضحية بها، في إطار المعركة الدائرة بين بعض مكوناتها والبيطار، «خصوصاً انّ هذه الحكومة ما كانت لتولد اصلاً لو لم تمثل حاجة حيوية لكل طرف دخل اليها، في اعتبارها تشكّل غطاء يقيه من غدر الزمن»، ولذلك تبدو بعبدا مقتنعة بأنّ استمرارية الحكومة انما هي مضبوطة على إيقاع الحاجة المتواصلة اليها والوظيفة المناطة بها، والاستغناء عنها ليس بهذه البساطة.
من هنا، توحي دوائر القصر، أن لا مفرّ من التعايش بأفضل الظروف الممكنة مع الحكومة والبيطار في آن واحد، وبأنّ أي مغامرة متهورة وغير محسوبة ستؤدي الى استفزاز القوى الدولية «وربما تدفع في اتجاه وضع البلد تحت رحمة الفصل السادس، فالمسألة ليست مزحة ولا نزهة».
وعلى الرغم من انّ الأزمة باتت شديدة التعقيد، خصوصاً بعد جريمة الطيونة، لم يفقد القصر الجمهوري الأمل في إمكان معالجتها، استناداً الى واحد من الخيارات الآتية:
– تشكيل هيئة اتهامية عدلية، يستطيع أن يحتكم اليها كل من يشعر أنّ قرارات البيطار ظلمته، على أن تنحصر مهمة هذه الهيئة في قبول مراجعات الإبطال والطعن في الإجراءات المتعلقة بمسار التحقيق تحديداً (مذكرات توقيف، طلبات ردّ..) دون القرار الاتهامي عند إحالته الى المجلس العدلي، ومن الاقتراحات ان يكون مركز الهيئة في بيروت وبرئاسة قاض شيعي اذا تطلّب الأمر، على أن يصبح دورها في ما بعد ثابتاً ودائماً لناحية تلقّي مراجعات الإبطال والطعن في قرارات أي محقق عدلي في اي قضية كانت.
– تعجيل مجلس النواب في إطلاق مسار المساءلة الذي كان يجب أن يبدأ منذ ايام القاضي صوان، وفق اوساط القصر الرئاسي، خصوصاً انّ الطبيعة والتحقيق لا يحبان الفراغ تبعاً لتلك الاوساط.
– إذا كانت الحصانات سارية المفعول حتى انتهاء العقد التشريعي لمجلس النواب في نهاية السنة، فإنّ تنفيذ مذكرات التوقيف يغدو معلّقاً في هذه الأثناء، ويمكن للقاضي خلال هذه الفترة أن يصدر القرار الاتهامي غير المشمول بالحصانة ويحيله الى المجلس العدلي الذي يصبح الملف عنده حينها، وفق أحد المخارج المتداولة في أروقة بعبدا.
اما جريمة الطيونة، فلا تجد دوائر بعبدا مانعاً أمام إحالتها أيضاً الى المجلس العدلي، «وهذا خيار يجب أن يُرضي «الثنائي» لأنّه الأقصى قضائياً».