يصمد القاضي طارق البيطار في متابعة مهمته كمحقق عدلي في تفجير العاصمة كما صمد قضاة الايادي النظيفة الايطاليون في مهمتهم التحقيق بجرائم المافيا.
تعرّض هؤلاء للتهديد والترغيب واغتيل بعضهم بالرصاص أو بكمائن التفجير الا انهم واصلوا عملهم. أحدهم جعل مكاتب العدلية منزلاً له. وضع لنفسه سريراً حديدياً في غرفة مصفحة حوّلها مكتباً ومنامةً ومطبخاً، لم يخرج منها الى مطعم أو صالة سينما، ولم يزر منزله أو منزل صديق وقريب. سنوات أمضاها اصحاب الأيادي النظيفة في البحث والتحقيق ثم المحاكمة الى ان تمكنوا من ادانة مئات المتورطين، وعندها، وبعد تقاعدهم تحدثوا وفسروا ما قاموا به بكلامٍ بسيط: لقد اخترنا الدولة بدلاً من العصابة، ولهذا قمنا بما قمنا به.
عنوانٌ بسيط لكنه كبير جداً. وهو ما يبدو ان البيطار الصامت يلتزمه وقد يضطره الى سلوك طريق نظرائه الايطاليين في الاصرار والتزام تدابير الأمن والحماية، ليتاح له الوصول الى معرفة الحقيقة ووضع المرتكبين أمام مسؤولياتهم.
إنه يعيد للجسم القضائي دوره وثقته بنفسه في وجه طاقم سياسي واداري فاسد يتوحد في وجهه ووجه الحقيقة والعدالة، ولا يتورع عن جرّ البلاد الى مستديرات التفجير بشتى الوسائل والاساليب.
هذا الطاقم هو نفسه من تولى مواجهة وتخريب الانتفاضة الشعبية العابرة للانقسامات الطائفية والمذهبية، بواسطة ميليشياته وخطاباته التخوينية، وهو نفسه من يتولى الآن الحرب على التحقيق في انفجار المرفأ، بالأساليب نفسها والأسلحة التقليدية إياها: الاستنفار المذهبي والتخوين والتشكيك، ولا علاقة هنا للدين أو للمذهب، فالهدف هو تحديداً وأد التحقيق والقضاء، مثلما جرى وأد الانتفاضة والمنتفضين.
الأمر الايجابي في هذه اللوحة هو صمود المحقق العدلي، لكن المعركة ضد ما يمثله في وعي اللبنانيين مستمرة. انها معركة ضد المؤسسات ولو عبر المؤسسات نفسها. الحديث عن استدعاء رئيس “حزب القوات اللبنانية” الى القضاء العسكري هدفه افتعال موازنة مع استدعاءات البيطار، وشل مجلس الوزراء ومنع انعقاده هدفه الأخير سيكون على الارجح مقايضة السماح بانعقاده مقابل تراجعه عن احالة جريمة المرفأ الى المجلس العدلي… وهكذا يُلغى البيطار والتحقيق من المعادلة وتسمو شريعة الغاب.