Site icon IMLebanon

القاضي الذي قال لا… البيطار شخصية العام

 

 

كان طارق البيطار قد استعفى من المهمة الصعبة عندما عرضت عليه في آب 2020. ولكنها عادت لتوضع بين يديه. لم يستطع أن يهرب من القدر الذي أرادوا أن يرسموه له. ربما كان يقدّر حجم خطورة هذه المهمة ولكنه عندما قبلها اعتبر أنه سيكون لها. لم يعد قبوله أن يكون محققاً عدلياً في جريمة تفجير مرفأ بيروت مجرد ملف في وظيفة قضائية بل تعاطى معه وكأنه رسالة. هذه الرسالة جعلته أقوى شخصية في لبنان في العام 2021 وكأنه بات محور الأحداث. ليس لسبب إلا لأنه تسلح بقدسية هذه الرسالة وبات القاضي الذي قال لا ورفض المساومة والتنازل والخضوع.

 

ضخامة جريمة تفجير مرفأ بيروت تمنع التنازل. إما أن تكون على قدر المهمة وإما أن تعتذر. لا يمكن لأي قاض أن يساوم أو أن يبيع ويشتري في دماء الضحايا وعذابات الجرحى والمنكوبين. من هذه القاعدة ربما انطلق القاضي طارق البيطار.

 

عندما تمت إحالة القضية إلى المجلس العدلي في 10 آب 2020 بعد ستة أيام على الإنفجار الكبير كانت عمليات البحث عن الضحايا لا تزال مستمرة. في ذلك اليوم أعلن رئيس الحكومة حسان دياب استقالة حكومته التي كانت أيضاً ضحية من ضحايا التفجير ولكن لم يكن معلوماً بعد ما إذا كان التحقيق سيتحول أيضاً إلى ضحية.

 

عندما رفض القاضي طارق البيطار أن يكون محققاً عدلياً بعد استشارته من قبل وزيرة العدل ماري كلود نجم بالتشاور مع مجلس القضاء الأعلى وقع الإختيار على القاضي فادي صوّان. بين آب وأواخر العام تبدلت أمور كثيرة. عندما بدأ صوّان تحقيقاته وتسلم الملف تلقائياً من النيابة العامة التمييزية بدأت تتجمع معطيات حول قضية الباخرة روسوس التي نقلت كمية 2750 طناً من نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت وحول الإلتباسات التي رافقت الشحنة من جورجيا إلى تركيا واليونان وصولاً إلى لبنان حتى حجز الباخرة مع البضاعة والقرار بتفريغها في العنبر رقم 12. وعلى أساس المعطيات التي توفرت للمحقق العدلي أصدر مذكرات توقيف وطلب الإدعاء على النائبين غازي زعيتر وعلي حسن خليل ورئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب ووزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس وعدد من الضباط والموظفين في مرفأ بيروت والجمارك وممن كانت لهم علاقة بتلحيم بوابة العنبر رقم 12 ومن المشتبه بهم بالتقصير أو بالتواطؤ، وتابع السير في إجراءاته بعدما تلكأ مجلس النواب في رفع الحصانات عن النائبين المذكورين على رغم مراسلته له طلباً لرفع الحصانة بالتوازي مع طلب رفعها أيضاً عن مدير الأمن العام اللواء عباس ابراهيم ومدير عام أمن الدولة اللواء أنطوان صليبا. نتيجة هذه التطورات لجأ زعيتر وخليل إلى طلب رد القاضي صوّان للإرتياب المشروع بعدما كان أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله اتهم صوان بالإستنسابية والتسييس وتنفيذ مؤامرة لاتهام “حزب الله”. بعد تبلغه طلب الرد لم يتابع صوان تحقيقاته. ولم يتمّ تأكيد أن يكون تعرّض لتهديدات مباشرة أدّت إلى قبوله “راضياً” الخروج من هذا الملف. في 18 شباط 2021 مع صدور قرار محكمة التمييز قبول طلب رد القاضي صوان كان البحث جارياً عن القاضي الذي يجب أن يحلّ محله. عاد الخيار ليقع على القاضي طارق البيطار.

 

تحت ضغط الشارع وتحركات أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت وفي ظل تكوّن رأي عام يعتبر أن هناك محاولة لوقف التحقيق ومنع ظهور أي نتيجة والهروب من العدالة قَبِل البيطار تولي المهمة بعد اجتماعات مطولة ليلاً ليصدر القرار بتكليفه بهذه المهمة في 19 شباط بتزكية من وزيرة العدل ماري كلود نجم وبموافقة مجلس القضاء الأعلى. منذ ذلك التاريخ دخل البيطار إلى عالم المخاطر والبحث عن الحقيقة.

 

أسئلة كثيرة طرحت تتعلق بشخصيته وبهويته وبولائه السياسي وكفاءته القضائية وتوجهاته وبمن هو مرتبط ومن يمون عليه وماذا سيفعل في التحقيق؟ هل يتابع من حيث انتهى صوّان أم ينسف ما توصل إليه؟ هل يكمل بالإدعاء على النواب والوزراء ومن يتمتّعون بالحصانات أم سيخاف وسيكون رجل التراجع والتسوية والبحث عن مخارج سياسية لأهم قضية أمنية؟ ثلاثة أشهر أعطاها القاضي البيطار لنفسه من أجل مراجعة الملف والتحقيقات كانت مرحلة انتظار طويلة تركت علامات استفهام كثيرة حول طريقة عمله. قوته كانت في أنه لم يكن محسوباً على أي جهة سياسية وفي أنه يأتي من عائلة متواضعة ومن سيرة قضائية لا شوائب فيها ولكن ما لم يكن ممكناً تقديره هو ما إذا كان يقدر على تحمل الضغط الذي سيتعرض له مع علمه المسبق ومعايشته لما تعرض له سلفه القاضي صوّان.

 

بعد ثلاثة أشهر أظهر البيطار أنه جاء ليكمل لا لينقض ولا لينسف تحقيق القاضي صوّان وأنه ليس قاضياً من أجل تسوية القضية ولفلفتها. ولذلك منذ أعاد تحريك الإدعاءات بدأت الحرب عليه. وعندما لم يقبل المساومات بدأت الإتهامات تنهال عليه بأنه مسيّس وينفذ أجندة خارجية ومؤامرة على “حزب الله” وحلفائه وأنه على علاقة بالسفارة الأميركية في عوكر أو بالإدارة الأميركية في واشنطن أو بـ”القوات اللبنانية”، التي لم يكن لها أي دور في تسميته أو في موقعه القضائي ولم تربطها أي علاقة به لا سياسياً ولا على المستوى الشخصي. ولكن كل تلك الإتهامات مع البحث في خفايا سيرته الذاتية كانت تصب في مصلحته وفي إبعاد هذه الإتهامات عنه. فالذين هاجموه ظهر لهم أن عائلته كانت تنتمي سياسياً إلى الحزب السوري القومي الإجتماعي وإن لم يستطيعوا التأكيد أنه هو شخصياً يحمل هذا الإنتماء. وأخذوا عليه أنه يذهب إلى الكنيسة مثلاً وأنه حريص على عائلته ولكن كل ذلك لم يكن كافياً للتشكيك بمهنيته.

 

عندما لم ينحن أمام التهديدات التي وصلته بالتواتر دخل مسؤول الأمن في “حزب الله” الحاج وفيق صفا إلى قصر العدل والتقى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود طالباً كفّ البيطار عن الحزب وكفّ يده عن التحقيق. وعندما لم يجد قبولاً لم يتوان عن توجيه تهديد مباشر إليه بأنه سيتم قبعه بأي طريقة كانت. لم يقف الأمر عند هذا الحد. الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله خصّص أكثر من إطلالة تلفزيونية للمطالبة بقبع “هذا القاضي” في محاكمة علنية له وفي إصدار حكم غير قابل للطعن ولا للمراجعة. ولكن القاضي البيطار ظل متمسكاً بقدسية الرسالة التي جعل منها عنواناً لمهمته. استمر في اندفاعته واستمرت الدعاوى المطالبة بردّه وكفّ يده. كان قادراً على انتظار المهل القانونية. يتوقف عن التحقيق ولكنه يعود إلى النقطة التي توقف عندها ليتابع.

 

هكذا تحوّل القاضي البيطار إلى أهم شخصية في العام 2021. بات وجوده وأمنه ودوره ومهمته مطلباً عالمياً وكأنه صار محققاً دولياً في هذه القضية التي أبلى فيها البلاء الحسن. من هو هذا القاضي الذي استطاع أن يقف في وجه تهديدات السيد حسن نصرالله؟ من يحميه ومن يعطيه الأمان ويقدم له المساعدة؟ لماذا يقبل بهذه المخاطرة؟ فقط لأنه أراد أن يقول لا تمّ شن حرب شرسة عليه ولكنها تحولت إل مصدر قوة له. تلك الحرب كانت أيضاً سبباً في التمسك به محققاً عدلياً وباتت مسألة عزله بمثابة جريمة أكبر من الجريمة التي يحقق فيها. ولذلك أقفلت جميع الطرق أمام قرار قبعه. عطل “حزب الله” ومعه حركة أمل مجلس الوزراء في جلسة 12 تشرين الأول ونظموا التظاهرات المطالبة بقبعه في 14 تشرين الأول ليأخذوا البلد إلى خطر الحرب الأهلية بعد المواجهات التي حصلت في منطقة الطيونة والتي لم تنته مفاعيلها بعد. وعلى رغم ذلك بقي البيطار في موقعه مع أن المطالبين بقبعه حملوه أيضاً مسؤولية ما نتج عن أحداث الطيونة على أساس أنه لو قبل أن يتنحى لما كانت حصلت المواجهات. توسعت الحرب عليه لتصبح حرباً على مجلس القضاء الأعلى ورئيسه القاضي سهيل عبود الذي اتهم أيضاً بأنه هو الذي يحمي البيطار ويثبته في موقعه ويرد عنه كل دعاوى الرد. في الواقع لا يدافع عبود عن البيطار بل عن القضاء وعن العدالة راسماً خطاً فاصلاً بين السياسة وبين العدالة وهو في هذه العملية كان أيضاً القاضي الذي قال لا على رغم أن الحرب التي استهدفت البيطار طالبت بقبعه هو أيضاً وصولاً إلى محاولة تطييره مع مجلس القضاء الأعلى من أجل الإتيان بمجلس جديد ورئيس جديد له يوافق على قبع البيطار مقابل قبول الطعن في قانون الإنتخابات وعودة مجلس الوزراء إلى الإجتماع.

 

بقاء البيطار في موقعه بات ربما أهم من مسألة انتخاب رئيس للجمهورية. لم يكن المطلوب قبعه كشخص فقط. كان المطلوب اغتيال التحقيق بكامله حتى لا تظهر الحقيقة التي كانت بدأت معالمها تتكشف. لماذا خاف “حزب الله” إلى هذا الحد مع أنه لا يوجد أي موقوف ينتمي إليه؟ لا إجابات محددة حول هذا الخوف سوى ما يتحدث به الحزب عن مؤامرة تستهدفه. هذا الأمر يستدعي سؤالاً عما إذا كان القاضي البيطار أو أي قاض غيره يستطيع أن يفبرك ملفاً بهذا الحجم لاتهام الحزب.

 

فشلت محاولات عزل البيطار طوال العام 2021. مع العام 2022 يستكمل مهمته. جل ما يفعله المتهمون والمدعى عليهم هو تأخير التحقيق وعرقلة سير العدالة. حتى لو لم يكتمل التحقيق فقد ساهموا في إصدار الأحكام على أنفسهم قبل أن يتّهمهم القاضي البيطار أو أن يصدر قراره الإتهامي ويتحوّل الملف إلى المجلس العدلي.