Site icon IMLebanon

لبنان في ظلّ “قانون مازح”

 

 

إستقال القاضي محمد مازح ولكن رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب غير راغب بالإستقالة بعد، وهو متمسك بموقعه ويوبّخ كل وزير يحكي أو يُلمّح إلى موضوع الإستقالة. ما فعله القاضي مازح في الحكم الذي أصدره بحق السفيرة الأميركية والإعلام أكّده رئيس الحكومة، عندما هاجم بعض السفارات ورسائل الحبر السري وكأنّ السلطة في لبنان تطبّق أحكام القاضي الذي استقال، وكأنّ لبنان يعيش في ظل “قانون مازح” في مواجهة “قانون قيصر”.

 

في 27 حزيران الماضي بدأ سيناريو حكم قاضي الأمور المستعجلة في محكمة صور محمد مازح عندما تلقى عبر البريد الإلكتروني للمحمكة استدعاء السيدة فاتن علي قصير، وقد عرضت فيه أنها شاهدت مقابلة مع السفيرة الأميركية دوروثي شيا أدلت فيها بتصريحات مسيئة للشعب اللبناني ومثيرة للعصبيات. سارع القاضي إلى البتّ بالإستدعاء واعتبر أن السفيرة تناولت أحد الأحزاب الذي له تمثيل نيابي ووزاري، وله قاعدة شعبية، وحمّلته المسؤولية عن الأوضاع في لبنان، بينما لا يحقّ لها التطرّق إلى هذه الأمور التي تمثّل شأناً داخلياً، مضيفاً أنّ السفيرة تؤلّب الشعب اللبناني على هذا الحزب وأن تصريحها جرح وأذى مشاعر المستدعية وكثير من اللبنانيين، ولذلك قرّر منعها من التصريح الإعلامي، ومنع وسائل الإعلام اللبنانية من نقل تصريحاتها لمدة عام.

 

قبل أيام من إصدار هذا القرار القضائي كان القاضي مازح قد علق على قانون “قيصر”، معتبراً أن “مواجهته تكون بقانون الحسين… وهيهات منا الذلة”، قبل أن يعود ويحذف هذه التغريدة. عندما تمّت إحالته إلى التفتيش القضائي تضامن معه “حزب الله” واعتبر أنه كان يجب أن يكافأ على فعلته ولكنّه بعد أن كان أكّد أنه لن يستقيل سارع إلى تقديم استقالته.

 

بين القاضي والرئيس

 

كلام رئيس الحكومة في جلسة مجلس الوزراء في السراي الحكومي في 2 تموز الحالي لم يكن بعيداً من قرار القاضي مازح القضائي. على رغم البلبلة التي أثارها هذا القرار داخل أروقة السلطة فإنّ رئيس الحكومة لم يتوانَ عن السير في الطريق نفسه. بعد اعتذار “الحكومة” للسفيرة، وبعد حالات الإنكار وتقاذف المسؤوليات وضياع المعايير، وبعد الإستقبال الذي تمّ تنظيمه لها في وزارة الخارجية بأيام كان دياب يعلن: “سكتنا كثيراً عن ممارسات ديبلوماسية فيها خروقات كبيرة للأعراف الدولية، والديبلوماسية، حرصاً على علاقات الأخوة والانتماء والهوية والصداقات، لكن هذا السلوك تجاوز كل مألوف بالعلاقات الأخوية أو الديبلوماسية. والأخطر من ذلك، بعض الممارسات أصبحت فاقعة في التدخل بشؤون لبنان، وحصلت اجتماعات سرّية وعلنية، ورسائل بالحبر السري ورسائل بالشيفرة ورسائل بالـ”واتس آب”، ومخططات، وأمر عمليات بقطع الطرقات وافتعال المشاكل…”.

 

وسّع دياب هجوم القاضي مازح المركز على السفيرة الأميركية وحوّله إلى أمر عمليات يستهدف فيه اكثر من جهة دبلوماسية بالإضافة إلى أكثر من جهة محلية اتهمها بعرقلة عمل الحكومة ومنع وصول المساعدات الدولية والنفط والفيول وبانهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار. اللافت في مواقف دياب أنها تصدر تباعاً داخل جلسات مجلس الوزراء وكأنّه يقرأ بيانات مكتوبة ومعدّة سلفاً، بينما في المقابل لا يخرج إلى أي مواجهة مع الإعلام ليدافع عن نفسه وعن فشل الحكومة.

 

ما قام به دياب يكمل ما قام به القاضي مازح. كأنه اختراق لوسائل العمل السياسي العادي من خارج منظومة الحكم وهو يعبّر عن استياء “حزب الله” من نمط الممارسة السياسية التي لا تأخذ بملاحظاته حول وضع حدّ للسفيرة الأميركية وغيرها. وربما كان يريد أن يسجّل نقاطاً في مرمى العهد و”التيار الوطني الحر”، خصوصاً لجهة التراخي مع الأميركيين ومطالبهم ومع تطبيقات “قانون قيصر”، آخذاً في الإعتبار أنه يستطيع أن يدخل إلى تحقيق ما يريده من خلال أجهزة السلطة الرسمية وتحديداً من بوابة القضاء، فكان هذا الإستدعاء وهذا الحكم الذي أصدره القاضي مازح وكان أيضاً هذا الموقف الذي أطلقه الرئيس حسان دياب.

 

واقعة العميد حسين عبدالله

 

قبل واقعة القاضي مازح سجل القضاء واقعة أخرى في آذار الماضي عندما أصدرت المحكمة العسكرية برئاسة العميد حسين عبدالله قراراً، قضى بإطلاق سراح عامر الفاخوري الذي تمّ توقيفه بعد دخوله إلى لبنان ومصادرة جواز سفره، على أساس أنه متّهم بالعمالة للعدو الإسرائيلي وكان مسؤولًا في سجن الخيام. لم يكن “حزب الله” راضياً عن ذلك القرار. بينما اعتبر أن القاضي مازح كان يجب تكريمه ومكافأته بسبب قراره كانت القصة معكوسة مع عبدالله بحيث تمّ تخوينه، وعلى هذا الأساس سارع أيضاً إلى تنحّيه عن رئاسة المحكمة مدوناً: “إحتراماً لقسمي وشرفي العسكري، أتنحّى عن رئاسة المحكمة العسكرية التي يساوي فيها تطبيق القانون إفلات عميل، ألم أسير، تخوين قاض”.

 

وزني والمرجعية السياسية

 

إذا كان بإمكان رئيس الحكومة أن يقول ما يقوله وأن يتّهم جزافاً من دون أن يسمّي فلا يعود هناك عجب في دفع القاضي مازح إلى إصدار القرار الذي أصدره بحق السفيرة الأميركية ووسائل الإعلام، بغضّ النظر عن قانونيته. وإذا كان وزير المال الدكتور غازي وزني يستطيع داخل جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن يقول أن مرجعيته السياسية لا تقبل أن يتمّ الإتفاق مع شركة “كرول” للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان على خلفيّة علاقتها بالموساد الإسرائيلي، فلا تعود الملامة كبيرة على السلوك الذي انتهجه مازح. ولكن الخطورة في هذا الأمر أن تتحوّل رغبات المرجعيات السياسية إلى القاعدة التي تسيِّر عجلة عمل المؤسسات الرسمية من مجلس الوزراء إلى سائر الدوائر المتفرعة منها وكأنّنا دخلنا عملياً مرحلة الفيدراليات الخاصة داخل هذه المؤسسات في القضاء والإدارات العامة والأجهزة الأمنية.

 

على هذا الأساس مثلًا يمكن أن يتقدّم أيّ مواطن باستدعاء عبر البريد الإلكتروني وفي أيام العطلة والحجر الصحّي أمام أيّ قاضٍ للأمور المستعجلة في أيّ محكمة بداية، ويشكو تدخل السفارة الإيرانية مثلاً أو السفارة السورية في الشؤون اللبنانية ليصدر أيّ قاض آخر قراراً بحقّ هذا السفير أو ذاك. وعلى قاعدة ما قاله الرئيس حسان دياب يمكن مثلاً التقدم باستدعاء جديد ضد السفيرة الأميركية أو السفير السعودي لاستصدار أحكام بحقّهما مماثلة لحكم القاضي مازح بينما لا يزال مرسوم التشكيلات القضائية ينتظر البتّ به بعدما رفض رئيس الجمهورية توقيعه.

 

إذا غاب القانون عن عمل الدولة والمؤسسات فماذا يبقى من هذه الدولة إذا أصبحت أسيرة قانون مازح؟ ربّما الحلّ يبدأ باستقالة الحكومة فرداً فرداً أو باستقالة رئيسها مرّة واحدة بدل التلهّي بالبحث عن جنس الملائكة، بينما الناس يموتون في الشوارع وينتحرون ولا يجدون رغيف خبز ويبحثون عن تنكة مازوت وقنديل كاز وشمعة، في ظلّ حكومة لم تستطع أن تنير ولو شمعة واحدة في هذا الظلام الدامس الذي يخيِّم على لبنان.