أضاف النزاع الدستوري – القضائي الذي أثاره الإدّعاء على رئيس الحكومة والوزيرين السابقين النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر والوزير السابق المحامي فنيانوس، فصلاً جديداً من فصول الإستباحة المتبادلة بين السلطات وهزال تعاونها، وأضاف بالتوازي، إدّعاء القاضية غادة عون، على المدير العام لقوى الأمن الداخلي، وردّة الفعل غير المسبوقة، ما يُنذر بمرحلة أمنية قضائية قادمة، وبمزيد من تفاقم الإشتباك المتعدّد الأوجه والمستويات داخل منظومة سياسة إختل نظام المصلحة بين مكوّناتها، بما لا يحتمل استعادة التوازن.
وعلى هامش الدعم الذي يبديه اللبنانيون تجاه القضاء والمطالبة الدائمة بضرورة الوصول إلى الحقيقة في جريمة العصر أو جرائم الفساد، فإنّه لمن السذاجة تبرير السقطات الدستورية والقانونية الكثيرة المرافقة للإندفاعة القضائية، ووضعها في سياق ما يجب تجاوزه تحت عنوان تسهيل مهمة القضاء. كما لا يمكن القفز فوق نمط وانتقائية الملفات التي هي ليست سوى نموذجاً لعضّ أصابع أو تبادل لكمات ذات مغزى بين شركاء لدودين، أو تلقّف الإستدعاءات لوجوه سياسية معارضة أو لناشطين على شبكات التواصل الإجتماعي إلا من قَبيل الصراعات السياسية المفتوحة التي اعتمدت القضاء أحد ميادينها الأكثر رحابةً.
تحوّل القضاء من مركز ثقل مفترض في لاوعي اللبنانيين الى صندوق لتبادل الرسائل، وأضافت الممارسات التي تتمّ تحت سقفه تقليداً يضاف إلى تقاليد فرضها متسلطون على الحياة السياسية. تحقيقات المرفأ بحيثياتها وتوقيفاتها وسقطاتها التي يسربها الإعلام، كما توزيع الأموال على المستشفيات التي سجلت فضيحة جديدة بالأمس القريب، وسواهما، سقطت كلها تحت تأثير ميزان قوى يريد أن يؤسّس لواقع جديد.
ميزان القوى عينه يخضع له تشكيل الحكومة التي ضاعت مع مركز الثقل المتنقل خارج لبنان ما بين فرنسا وطهران وواشنطن، أو داخله ما بين صلاحيات رئيس مكلّف وتوقيع رئيس جمهورية، أو مراكز قوى تحاول رسم خارطة نفوذ على ما تبقّى من الدولة والمال العام، أو من زبائنية مخجلة لدى زعامات انهارت وتجاوزها الواقع. وقد أضيف هذه المرة الى الشراهة المعتادة على السلطة ، حذرٌ متبادلٌ وقلقٌ على المصير بين أركان المنظومة، على وقع متغيّرات دولية غير واضحة المعالم وتطبيع إقليمي هو أقرب الى تحالف أمني إقتصادي ذهب الى ما هو أبعد بكثير من التوقّعات وأطاح بكلّ الحسابات السابقة.
لقد ارتكز نظام المصلحة اللبنانية لا سيما بعد اتّفاق الطائف، الذي كرّس نهائية لبنان وعروبته، إلى نظام مصلحة إقليمي أدرك المخاطر المحيطة به جيداً وحاذر سقوط لبنان الكلّي في الدائرة السورية وأخيراً الإيرانية. نظام المصلحة الإقليمية كان قادراً على تسويق السقطات اللبنانية لدى الولايات المتّحدة للحفاظ على دعمها، ودفع أثمان باهظة للحفاظ على لبنان.وتحت سقف نظام المصلحة الإقليمي نما وترعرع نظام مصلحةٍ لبناني تقاسمه سياسيّو لبنان بالتكافل والتضامن، ولم يؤسّسوا لإستقرار وطني ودور جديد للبنان مدني متحرر من الطائفية السياسية. أغرقت طموحات القيّمين على نظام المصلحة اللبناني لبنان في وحول الصراعات الإقليمية على حساب الدستور والإقتصاد والسياسة الخارجية، وأمعنوا إلى ما لا نهاية في ابتزاز الضامن الإقليمي وكانهم يطلبون ثمناً لعدم نحر لبنان.
ردة فعل الإقليم كانت في الذهاب إلى تغيير الركائز التي بنى عليها مصالحه مستفيداً من الدروس المستقاة من الحرب المستنسخة في كلّ من سوريا والعراق واليمن ولبنان وغزة، التي كرّست أدواراً لتركيا وإيران وقطر ومعهم موجات الإسلام السياسي السنيّة والشيعية على حساب كلّ ما كان يعرف بالنظام العربي. ذهب نظام المصلحة الإقليمي الجديد إلى كسر المحرّمات والدخول في مرحلة التطبيع مع إسرائيل، التي يبدو أنها تؤسّس لتحالف إقليمي سياسي أمني إقتصادي يمتدّ من الخليج العربي حتى البحر الأحمر، مُسقطاً معه نظام المصلحة اللبناني بكلّ إحراجاته وإبتزازاته.
يدرك الأقوياء والطامحون في منظومة السلطة أنّ تحسين مواقعهم، على خلفيّة استحالة الإستمرار بالوضع القائم، يتطلب حدثاً جللاً لا تبدو معالمه واضحة لجهة الوضع النهائي المطلوب وهوامش الخسارة والربح ومستحقيها. هذا بالإضافة أنّ الإرتباك وعدم القدرة المحليّة على المبادرة، لدى من يدعون صناعة الحدث، مردّه عدم وجود دينامية دولية مهتمة ومواكبة لما يحصل في لبنان، تطرح أمامها أوراق القوة، وعدم وجود طرف إقليمي درجت العادة على ابتزازه من ضمن نظام مصلحة أصبح الآن من الماضي. يدرك الطامحون أنّ أيّة مبادرة في غير مكانها هي جهد في الوقت المستقطع لا يمكن أن يحتسب، وهي بمثابة إطلاق النار في الهواء.
أسئلة وتساؤلات يجب أن يضعها الطامحون في لبنان لمعادلة سياسية جديدة، ما هو الموقع المنشود وربما المتبقي للبنان الدولة، في شرق أوسط جديد ارتسمت معالمه بما تجاوز المخيّلات السياسية المصرّة على سجن نفسها داخل تركيبات مذهبية وطائفية؟ وما هي مقوّمات نظام المصلحة اللبناني الجديد، وما هي حدود المخاطرة وهوامش الخسارة والربح في ظلّ نظام إقليمي تفوق فيه طموحات اللاعبين جوائز الترضية المعروضة والفرص المتاحة !!!!
العميد الركن خالد حمادة
مدير المنتدى الاقليمي للإستشارات والدراسات