Site icon IMLebanon

تفجير ملف المرفأ: محاكمة صوّان

 

قبل أن يصدر قرار محكمة التمييز بكف يد المحقق العدلي القاضي فادي صوان في قضية تفجير مرفأ بيروت ونقل المهمة إلى قاضٍ آخر لم تتمّ تسميته بعد، كان الحكم قد صدر على صوّان وتحوّل من قاض يتولّى التحقيق إلى قاض يتمّ التحقيق معه. عملياً كانت عملية التحقيق قد توقفت منذ ادعى عليه الوزيران علي حسن خليل وغازي زعيتر. والسؤال بعد هذا الحكم عليه هو ماذا يستطيع أي قاض غيره أن يفعل؟ وهل سيكون تكليف قاضٍ جديد مترافقاً مع قرار اتهامي معروف مسبقاً؟

 

تحول القاضي فادي صوان المحقق العدلي في قضية تفجير العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت في 4 آب الماضي من محقق يدعي على المشتبه بهم إلى “مدعى عليه” يتمّ التحقيق معه. ثمة استخفاف بالمسار القضائي الذي سلكه الملف إلى الحد الذي بات معه كثيرون يعتبرون أنهم شركاء في التحقيق ويمكنهم أن يوجهوه ويشاركوا فيه.

 

عندما قبل القاضي صوان أن يتولى هذه المهمّة كان يدرك من دون شكّ خطورتها والمسؤولية التي ستلقيها على عاتقه، وكان يجب أن يدرك أنّ قبولها يعني أن يكون قادراً على حمل هذا العبء وهذه المسؤولية مهما كانت المخاطر والصعوبات. لأنّ هذه المهمّة ليست مجرّد نزهة قضائية ومدعاة لاستجلاب الشهرة. أن تكون محققاً عدلياً في ملفّ بهذا الحجم وبهذه الخطورة يعني أنّك تقبل القيام بمهمة “انتحارية”، أو أن تذهب إلى الجهة المقابلة فلا تفعل شيئاً عملياً يفيد التحقيق وتساهم في قتل العدالة وتضييع الحقيقة وإفراغ الملفّ من محتوياته. والقاضي صوان عندما قبل هذه المهمة لم يظهر أنّه من الصفّ الثاني.

 

كثيرون لا يريدون أن يصل التحقيق إلى أي مكان. وربّما هناك اعتقاد أنّ القاضي صوان قد تكوّنت لديه بعض المعلومات من خلال التحقيقات التي أجراها مع عدد من الشهود والمتّهمين المدعى عليهم والموقوفين، تمكّنه من تكوين فكرة تقود إلى تحديد هوية الجهات التي استوردت باخرة نيترات الأمونيوم، والذين ساعدوا في إدخالها إلى مرفأ بيروت وتركها هناك في العنبر رقم 12 بانتظار سحب كميات منها، لاستعمالات عسكرية متنوعة قبل أن يحصل الإنفجار الكبير.

 

التسبب بالإنفجار ليس هو لبّ القضية. وإذا كان التحقيق سيبقى عند حدود مسؤولية التقصير والإهمال الوظيفي فالمسألة لا تستحقّ كلّ هذا التعب والجهد لا مع صوّان ولا مع من سيحلّ محلّه. لأنّ الناس يريدون أن يعرفوا من ارتكب الجرم الأساسي الكبير ومن كان وراء هذه العملية الكبيرة التي دمّرت بيروت، منذ تمّ تحميل النيترات في جورجيا حتى انفجارها في بيروت فالذي نقل هذه الكمية من النيترات هو الذي واكب العملية من بدايتها حتى نهايتها.

 

من الطبيعي أن القاضي صوان لم يكن بإمكانه أن يحقّق المعجزات وحده في هذه القضية التي تحتاج إلى جهاز قضائي كامل، وإلى تحقيق دولي ومعلومات من أجهزة مخابرات عالمية. صحيح أنّه المحقق العدلي الذي لا شريك له في صلاحياته ولا مراجعة لما يقرّره في قراره الإتهامي، ولكنّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً لوحده والأمر ينطبق على من يمكن أن يخلفه. القضية تتعلق بمنظومة كاملة قضائية وأمنية وسياسية. إذا لم تعمل هذه المنظومة بشكل متناسق ومتكامل لا يمكن أن يتقدّم الملف. يستطيع المحقق العدلي أن يستدعي من يريد ضمن توفر شروط التحقيق ولكن هل يستطيع أن يجعل الأجهزة الأمنية تعمل معه في الإتجاه نفسه؟ هل هذه الأجهزة المعتبرة من ضمن الضابطة العدلية وتتحرك بناء على طلب المحقّق العدلي تتحرّك فعلاً إذا طلب منها؟ وهل لكلّ منها مقاربته المستقلّة للتفجير ولمن تسبّبوا به وللمتّهمين والمشتبه بهم؟ وهل الضابطة العدلية في هذا الملف اليوم هي تحت سلطة العدلية أم أن العكس هو الصحيح؟

 

اتُّهِم القاضي صوان بأنه يعمل بطريقة استنسابية وانتقائية ومسيّسة وأنّه يتّهم فقط أشخاصاً من قوى “8 آذار”. وأنّه كان عليه أن يوسّع دائرة الإتهامات والإستدعاءات لتشمل أشخاصاً من قوى 14 آذار مثلاً على أساس أن التنويع في الأسماء والإنتماءات يجعله عادلًا. هل الإعتراض على هذه الإستدعاءات يعني أنّه ينسحب أيضاً على الأحكام، وبالتالي هل كان على القاضي صوّان أن يتّهم العدد نفسه من “8 آذار” ومن “14 آذار” هذا إذا كانت هذه القسمة لا تزال موجودة وقائمة؟ وهل ما اتُّهِم به يُعتبر خريطة طريق لمن سيأتي بعده. ثمّة من أخذ على القاضي صوّان أنّه توسّع في اللائحة الأولى التي أرسلها إلى مجلس النواب وتضمّنت اسماء رؤساء حكومة ووزراء تعاقبوا على السلطة، خلال الأعوام السبعة من رحلة باخرة النيترات من الإبحار إلى الإنفجار، وأنّه عندما ادّعى إنّما حصر المسألة بالرئيس حسّان دياب والوزراء غازي زعيتر وعلي حسن خليل ويوسف فنيانوس. وأنّه أكثر من ذلك استمع إلى قائد الجيش السابق جان قهوجي ولم يأمر بتوقيفه ولم يدّعِ عليه، وحتى أنه لم يستدع قائد الجيش الحالي ومدراء المخابرات منذ 2013 حتى 2020.

 

اللافت في هذه المسألة أن “حزب الله” كان في طليعة من تنبّهوا إلى هذا الأمر وبدا كأن القاضي صوان كان عليه أن يفهم الرسالة والتوقّف عن التحقيق، كأنّ هناك شبهة عليه في ما يفعله. الأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصرالله كان أطلق ما يشبه التحذير من تسييس القضية حتى أنّه طلب من المحقّق العدلي ومن الأجهزة الأمنية المشارِكة في التحقيق الكشف عما توصّلوا إليه من معلومات. كيف يمكن الكشف عن هذه المعلومات إذا كانت موجودة فعلاً في الملفّ طالما أن التحقيق مستمرّ؟ ولكن ظهر من خلال بعض التسريبات أن التحقيق السرّي لم يكن سريّاً.

 

في ظل هذه الأجواء كيف كان يمكن أن يستمرّ القاضي صوان في التحقيق؟ بعد الإدعاء عليه وطلب كف يده للإرتياب المشروع هل كان الهدف تخويفه؟ وهل محاولة قطع الطريق عليه كانت بسبب بدء تكوين ملفّ اتهام حقيقي كان المطلوب أن يتمّ توقيفه وعدم متابعة السير به؟ ولماذا بعد بلوغ هذه المرحلة وبعد توقف صوّان تلقائياً عن متابعة التحقيق بانتظار قرار محكمة التمييز بطلب كفّ يده، تم الكشف عن ضلوع شخصيات من النظام السوري باستيراد النيترات لمصلحته وتخزينها في مرفأ بيروت، لنقلها على مراحل إلى سوريا واستخدامها بالبراميل المتفجرة؟ وهل على أي قاض جديد أن يأخذ بهذه المعلومات أن يتجاهلها؟

 

قد يكون ذنب الرائد جوزف النداف أنه حركش في هذا المستودع النائم. تلك النومة الهنيئة كل هذا الوقت ربما طالت لأن الذين كانوا يعرفون به كانوا باتوا يعرفون أيضاً، أنّه لا يجوز الإقتراب منه وبالتالي تركه نائماً بشفاعة قوة قاهرة قادرة على تركه كذلك. الرائد نداف وبعض الموقوفين غيره اعتبروا كأنهم ضحايا التحقيق بينما لم تتجه التهمة نحو الهدف الرئيسي. القاضي صوان بات أيضاً ضحية تفجير المرفأ بعدما كان عليه أن يكشف الحقيقة. بعد استبعاده من سيجرؤ على تولي هذه القضية وهو يدرك أن طريقه مرسوم سلفاً. هل يعني كل ذلك أن الحقيقة هي أيضاً سقطت ضحية التدخل السياسي في الملف الأمني والقضائي؟ عملياً نهاية دور القاضي صوان يمكن أن تكون نهاية التحقيق أيضاً الذي سيدفن أيضاً تحت الأنقاض، ولا يمكن البحث عن الحقيقة إلا من خلال تحقيق دولي كما حصل في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولكن إذا كانت هذه السلطة تريد دفن التحقيق وتضع على قبره حجراً، فمن يستطيع أن يكسر هذا القرار قبل أن تنكسر السلطة؟ ربما المطلوب محقق عدلي خبير في شؤون دفن الحقيقة وفي شؤون التلحيم.