IMLebanon

البرلمان – القضاء: مَن يكسر رأس الآخر؟

عدوى دفن التحقيق الجنائي تصيب ملف المرفأ

قدّم الاشتباك الدائر بين مجلس النواب والقضاء مرفأ بيروت، وتالياً ملف انفجاره، على انه صورة مصغرة عن دولة لبنان: تضارب صلاحيات، عدم توزيع مسؤوليات، تناقض مصالح، صراع اجهزة، تسابق احزاب وطوائف ومذاهب، فساد. سادس العوامل الخمسة هو عصارتها مجتمعة

 

ما اضحى عليه الصراع المحدث بين مجلس النواب والقضاء، انه سيقودهما معاً الى المعادلة الآتية: ايهما يكسر رأس الآخر؟

 

علّمت تجارب الماضيين، البعيد والقريب، ان خوض معركة في لبنان ضد مجلس النواب، كما ضد الاعلام، خاسرة سلفاً، وإن كان ثمة ظالم ومظلوم. في نهاية المطاف تربح هذه المؤسسة المعمرة. ما حدث اخيراً افضى الى اعتقاد بأن ما اصاب التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، وصلت عدواه الى ملف انفجار مرفأ بيروت. كلاهما دُفنا او سيدفنان الى غير رجعة. وقد تكون معطيات الايام الاخيرة وما آلت اليه مهمة المحقق العدلي فادي صوان، قبل اشتباكه مع مجلس النواب ثم بعده، تؤشر حتماً الى مسار مختلف لها، إن لم يصر الى اختفاء التحقيق نهائياً:

اولها، انتقال السجال من بُعده القضائي الى السياسي. تارة برسم خطوط حمر، وطوراً برفض الامتثال لقرار القاضي، ومرة ثالثة بتبادل الاتهامات بتسييس الادعاءات تلك بين مَن يحمّل رئيس الجمهورية وفريقه مسؤولية التدخّل في الملف ومَن يلوذ بالاعتبارات المذهبية بغية تعطيل التحقيق واستغلاله في سياق آخر. اضف ان الاشتباك مع مجلس النواب اعطى انطباعاً للمجلس اولاً انه هو المستهدف كمؤسسة، من القضاء هذه المرة، كأنه استكمال لاستهداف كان قد بدأ في انتفاضة 17 تشرين الاول عندما نادى الحراك الشعبي بإنهاء ولاية البرلمان الحالي، واجراء انتخابات نيابية مبكرة، انضم اليها رئيس الحكومة حسان دياب فكان اول مَن دفع الثمن بفرض الاستقالة عليه. لحق به ثمانية نواب استقالوا تباعاً متوقعين كرة ثلج تلحق بهم، ففقدوا لوحدهم مقاعدهم مجاناً. ينظر مجلس النواب اليوم الى الاستهداف الجديد له على ان يتجاوز صلاحياته الدستورية، المرتبطة بالمجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، بغية محاصرته والايحاء انه بؤرة الفساد والارتكاب. لم يعد وحده يدافع عن نفسه، بل الطبقة السياسية برمتها، الموجودة فيه بمشاربها المختلفة، باتت في واجهة الصدام.

ثانيها، منذ اليوم الاول لتعيينه محققاً عدلياً في 13 آب، ثم استمراره في مهمته مذذاك الى 26 تشرين الثاني عندما وجه المحقق العدلي رسالته الى مجلس النواب، اشتكى على مر الاشهر الثلاثة المنصرمة من الانتقادات الموجهة اليه: إما بالتباطؤ في التحقيقات، او اهدار الوقت بلا طائل، او التحامل عليه لاقتصار التوقيفات على موظفين وضباط وعسكريين مأمورين وصولاً الى سائق سيارة. تذمر من انه لا يرضي احداً: لا اهالي الضحايا، ولا الموقوفين، ولا السلطات، ولا الرأي العام، ولا الاعلام. كان قد اضحى اسير ما انجز حتى ذلك الوقت بحصر التوقيفات بـ 18 موقوفاً احالتهم اليه النيابة العامة، الى ستة آخرين أمر هو بتوقيفهم. أُسديت اليه نصيحة مفادها الصعود بتحقيقاته من تحت الى فوق. اذذاك كتب الى مجلس النواب يطلب منه التحرك، متهماً او مشتبهاً بوزراء سابقين بالاهمال والتقصير طالباً ملاحقتهم، مع ذكره ثلاثة رؤساء للحكومة لم يأتِ على اتهامهم. فاذا اللعبة تنقلب على صوان، ويمسي اقرب الى كبش محرقة منه محققاً عدلياً يبحث عن الجناة الفعليين في انفجار المرفأ.

ثالثها، سواء صحّ صواب مخاطبته مجلس النواب عبر النيابة العامة التمييزية أم لا، الا ان صوان اوقع رسالته في ازدواجية الاختصاص. مجرد توجيهها الى البرلمان وطلب تدخّله، عنى اقتناعه – بل اعترافه – باختصاص السلطة الاشتراعية في ملاحقة اولئك واتهامهم. في الوقت نفسه ختم رسالته بعبارة انه يحتفظ بحقه في ممارسة اختصاصه على جميع اللبنانيين. عنى ذلك ايضاً، انه هو صاحب الاختصاص في الملاحقة والادعاء والاتهام. ازدواجية الاختصاص التي فُهِم منها تهديد مبطن انه سيلاحق الاسماء التي ادرجها في الرسالة، استفزت البرلمان من غير ان يبادر الى اي اجراء الى موعد انعقاد هيئة مكتب المجلس الاربعاء (16 كانون الاول).

رابعها، لم تكن الثغرة تلك الوحيدة في الرسالة. رغم النصيحة الثانية التي أُسديت اليه بعدم تضمين الرسالة اسماء، والاكتفاء بالقول ان شبهات تحوم من حول اصحابها ما دام مصراً على مخاطبة مجلس النواب مباشرة، بيد انه اوردها. حجته اقتناعه بما بيّنته له استجواباته وتحقيقاته التي شملت وزراء سابقين من دون الرؤساء السابقين للحكومة. على ان ادعاءه في 10 كانون الاول على رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين بينهم نائبان من دون سواهم من اللائحة التي ذكرها في رسالته الى المجلس، وطلب استجوابهم كمدعى عليهم، فقأ الدملة: إتُهم القاضي بالانتقاء اولاً في ما بين المدعى عليهم المفترضين كأن المقصود بهم رسالة ذات مغزى. ثم بإغفاله ثانياً اسماء اخرى صودف ان بينها وزراء اختارهم رئيس الجمهورية ميشال عون، قبل الرئاسة وبعدها منذ عام 2013، كسليم جريصاتي والبر سرحان وشكيب قرطباوي، فلم يشملهم الادعاء عليهم.

للفور تُرجم الانتقاء هذا على انه ناجم عن تدخّل سياسي، وراءه عون ومستشاره الاول جريصاتي. اقترن هذا التفسير والاستنتاج بملاحظتين: اجتماع ضم جريصاتي وصوان، ثم انتقال المحقق العدلي الى مكتب قريب من رئيس مجلس القضاء الاعلى سهيل عبود بعدما كان لزم مكتباً قريباً من المدعي العام التمييزي غسان عويدات. فُهِمَ هذا التصرفان – لدى الخصوم – على انه تدخّل سياسي موجّه الاهداف مرتبط بتصفية حسابات سياسية:

• مع ان صوان لم يتهم الرؤساء السابقين للحكومة – وقد سمّاهم – في رسالته الى مجلس النواب، بيد انه اختار في ادعاءات 10 كانون الاول رئيس الحكومة المستقيلة دون سواه من سلفيه الرئيسين تمام سلام وسعد الحريري، وعدّه مدعى عليه. هو الذي عاش في ظل ولاية نيترات الامونيوم على مرفأ بيروت ثمانية اشهر فقط في عمرها الممتد الى سبع سنوات. دِين دياب لأنه الغى زيارة للمرفأ، وغُض النظر عن زيارة الحريري له في 6 ايلول 2019 متفقداً السوق الحرة ومحطة المستوعبات ماراً حتماً بالقرب من العنبر رقم 12.

• عُزي ايراد اسم دياب الى الود المفقود بينه وبين رئيس الجمهورية، وهو السبب ربما الذي حمل على استثناء اسم الحريري كإشارة «تدليع».

 

رسالة صوان الى البرلمان تعني اعترافه باختصاص السلطة الاشتراعية في ملاحقة النواب واتهامهم

 

 

• من اسماء الوزراء الحاليين والسابقين المشتبه بهم الـ12، وبينهم ثلاثة في حكومة تصريف الاعمال طبقاً لرسالته الى مجلس النواب، اختار المحقق العدلي ثلاثة فقط هم علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس. «المصادفة» ان الاولين عضوان في كتلة رئيس البرلمان نبيه برّي فطاولهما الرذاذ، والثالث يقع عند تقاطع عجيب غير مسبوق بين برّي وحزب الله وسوريا وسليمان فرنجيه الذي غالباً ما كان يقول عن الدور المتصاعد لفنيانوس انه محسوب عليه من غير ان يكون له. تعبير غير صحيح حتى. سرعان ما وسّع فنيانوس هذا الخط بأن مدّه الى الحريري مذ وُزّر للمرة الاولى في اولى حكومات العهد الحالي عام 2016، ثم اصر على ان يستمر معه في حكومته الثانية عام 2019.

خامسها، مع ان الامل مفقود في مبادرة مجلس النواب الى ملاحقة المتهمين او المدعى عليهم، سواء حصل على ملف التحقيقات معهم وقد طلبها أم لا، الا ان دفاع هيئة مكتب المجلس عن نفسها بدا مبرراً، متمسكة بالصلاحية الدستورية المنوطة بها وفق المادتين 70 و71. لكن السجل التاريخي للبرلمانات المتعاقبة منذ ما بعد عام 1990 مع صدور قانون اصول المحاكمات امام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء رقم 13 عامذاك، يشي بأن المجلس الاعلى هو أمنعْ جدار حامٍ للسلطات كي ترتكب وتفر من المحاسبة. اذا خرج الاختصاص منه تبعاً لظروف سياسية كما حدث في عهد الرئيس اميل لحود ما بين عامي 1999 و2000، استعاده في ظروف مغايرة. لم تعثر برلمانات ما بعد عام 1990، وتحديداً ما بعد عام 1992 عندما أُدخلت الى البلاد ثقافة الفساد، على مرتكب. فكيف اذا اضحى الفساد الآن اسلوب حياة لدى السلطات؟