توقفت، أمس، عند الكلام المهم الذي أدلى به رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود في حفل تخرج مجموعة من القضاة الجدد الذين يدخلون الى هذه السلطة الجريحة والتي افتقدت الكثير من هيبتها، خصوصاً في السنوات الأخيرة، والمسؤولية مشتركة بين القضاة أنفسهم والسياسيين في السلطة أيضاً التي اتهمها عبود، بكامل رموزها، بانها وقفت سداً منيعاً في وجه الإصلاحات.
ونحن اذ نؤيد دعوة الرئيس عبود الى ثورة قضائية ضد الفساد، نود أن نقول إنه مشتَرَكٌ بين السلطتين، وإنه بعد ما شاهدناه أخيراً على الساحة الوطنية والقضائية والسياسية، نقول مع اللبنانيين الكثيرين إن القضاء لم يعد امرأة القيصر، وإن التدخل السياسي في القضاء الأكيد ما كان له ليبلغ مداه لولا الأرض الخصبة في الجسم القضائي، واننا ندين «السد المنيع» السياسي ضد الإصلاح، ولكننا في المقابل نطالب الريس عبود بأن يشكل الجسم القضائي، بدوره، سداً منيعاً ضد التجاوزات السياسية والسلطوية … فلماذا لا يفعل؟!.
وسبق أن كتبنا، غير مرة، في «شروق وغروب»، أن لا إصلاح في لبنان إلّا على يد القضاة فرادى أو جماعات. وأمامنا مثال عظيم يُحتذى ويُقتدى به، وهو ما شهدته إيطاليا في مطلع التسعينات على يد قاض «مجنون» وأيضا قاض قديس، يوم كانت إيطاليا في قعر الانهيار والفساد، بما يشبه حالنا اليوم. فالقاضي أنطونيو دي بيترو لقَّب بالمجنون لأنه خاض حرباً لا هوادة فيها ضد الفساد فأمر باعتقال نحو 500 شخصية اثر اكتشافه أن إحدى القضايا المحالة عليه مرتبطة بسياسيين، بينهم «اخطبوط له أذرع في كل مكان»، على حد قوله . وشملت الاعتقالات سياسيين ومفتشين وضباط شرطة ومديرين وقضاة ومحامين وصحافيين وعسكريين وديبلوماسيين ورجال مال وأعمال (…) وزوجات وأبناء وعشيقات أولئك. الصحافة وصفت القرار بأنه « انتحاري» أن يضع قاضٍ الدولة برمتها، تقريباً، في دائرة التورط .
القاضي دي بيترو صدم الإيطاليين بجرأته وهو يعرف أنه «يضع دمه على كفه»، ولكنه مضى في «جنونه» رافعاً شعاره الأثير: «الفساد يدمر الدولة من الداخل لذلك يجب تدميره من داخله»! ونجح بتفكيك منظومة كان عمرها أربعين سنة.
وفي مطلع التسعينات كذلك سقط القاضي الإيطالي روساريو كيفانيتو شهيداً بتنفيذ المافيا التي تصدى لها منفرداً، وأمر باعتقال 355 متورطاً من المافيازو والسياسيين … ولاحقاً طوبته الكنيسة الكاثوليكية قديساً.
فهل لنا بقضاة مجانين وقديسين في لبنان ؟!.