أيّاً كانت النهاية التي ستَخلص اليها المساعي الهادفة الى «قبع» قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار، كما اراد البعض، قبل القيام بأي عمل آخر، سياسياً كان ام حكومياً، فإنه سيُبنى الكثير. فإن انتهت هذه المساعي الى تسمية محقق ثالث فإنّ على «المُخرِج» في أي «جمهورية موز» ان يغيّر الوقائع ويحوّر التحقيقات في اي جريمة قبل تغيير المحقق الثاني لئلّا تنتهي مهمة الثالث الى ما انتهى اليه سلفاه. فكيف ولماذا؟
بعد أيام على «واقعة الطيونة» ومجموعة الألغاز التي ما زالت تحوط بوقائعها وما سبقها وتلاها، يستعد اللبنانيون الى استقبال ثلاثاء غير عادي اليوم، فمنه ستنطلق آلية ترجمة مجموعة من المبادرات والمساعي الهادفة الى تطويق وتفكيك ما استجدّ من عقد، والتي يمكن ان تؤشّر، في حال النجاح او الفشل، الى شكل الحياة السياسية في البلاد ومستقبلها وما إذا كانت هناك لدى أهل السلطة مخارج لأيّ من القضايا الطارئة والصادمة التي نشأت في غضون ايام قليلة، بعدما أضافت مجموعة من العقد المستعصية في ظل فقدان المخارج الممكنة لِما سبقها.
وإن لم تأت المعالجات لـ»واقعة الطيونة» الخميس الماضي وقبلها مطالبة وزراء الثنائي حركة «أمل» و»حزب الله» بتجميد العمل الحكومي الى حين «قبع» القاضي البيطار بأيّ جديد محسوم، فإنها شكلت بوجوهها الأمنية والحكومية والقضائية والدستورية امتداداً لِما يعدّ أخطرها واكبرها حجماً وتأثيراً في العلاقات بين اهل الحكم أنفسهم قبل غيرهم من القوى السياسية وأطراف المعارضة.
فقد انعكس كل ما جرى في شكل سلبي لا نقاش فيه بداية على العمل الحكومي، وامتد التعثّر في بدايات انطلاقة الحكومة الواعدة حتى انه حال دون انعقاد اجتماع للمجلس الاعلى للدفاع سعى اليه رئيس الجمهورية عصرالخميس الماضي لمناقشة الجديد الامني الطارئ في منطقة الطيونة. وذلك قبل ان تنتهي مرحلة تقبل التهاني بولادة الحكومة وحديث اعضائها عن الخطط الوزارية الجديدة التي أعدت لمقاربة الملفات الحيوية. هذا عدا عن تأثيراته في مصير التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ نتيجة الجدل القانوني والسياسي بعدما بلغت مهمة المحقق العدلي محطات قيل إنها حسّاسة وفاصلة عن بعض الحقائق التي يبحث عنها.
وهكذا تداخَل ما هو سياسي وامني بما هو قضائي، «فانفخَت الدف وتفرّق العشاق». وهو ما طرحَ أكثر من سؤال حول امكان ان تؤدي الحكومة المهمّات الجسيمة المُلقاة على عاتقها، في محاولة قيل إنها جدية للخروج من الأزمات المتناسلة وفق سلّم اولويات رسَمته التعهدات التي قطعت لسلوك الطريق الطويل الى مرحلة التعافي والانقاذ واستعادة الثقة المطلوبة بالدولة ومؤسساتها وتحقيق بعض الإصلاحات الممكنة قبَيل دخول البلاد في مدار الانتخابات النيابية.
على هذه الخلفيات، يترقّب اللبنانيون ما يمكن ان يأتي به الاجتماع الأول لمجلس القضاء الاعلى الذي استعاد نصابه القانوني والدستوري كاملاً، بعد فترة من الشغور امتدت أربعة اشهر تقريباً، تزامناً مع انعقاد الجلسة الأولى للمجلس النيابي في دورته العادية الثانية من أجل انتخاب أمينَي السر وأعضاء هيئة مكتب المجلس ورؤساء اللجان النيابية واعضائها والمقررين، قبل ان ينعقد في أولى جلساته التشريعية التي كان مقرراً ان تناقش التعديلات على قانون الانتخاب إذا بقيَ جدول أعمال الجلسة كما دعا اليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري مطلع الأسبوع الماضي.
فعلى مستوى مجلس القضاء الاعلى، تراجَع الحديث عن دعوة القاضي البيطار الى الاجتماع بأعضاء المجلس المقرر اليوم بهدف مُساءَلته ومعه القاضيين في محكمة الإستئناف جانيت حنا وناجي عيد، صاحبَي القرار برفض الرد المقدّم من النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر. وعليه، فقد سَرت رواية لم تتأكد بعدم تلبية القاضي البيطار الدعوة انسجاماً مع مضمون بيان «نادي قضاة لبنان»، خصوصاً اذا كان المقصود من الاجتماع تنحيته او إحالته الى هيئة التفتيش القضائي كما يرغب به البعض. فهو عندها سيكون من الافضل ان يتنحّى البيطار وربما الاستقالة من سلك القضاء، طالما انّ ما هو مطلوب مفروض بقرار سياسي بفِعل قوة قاهرة ولا مبرر قانونياً ولا دستورياً له.
وفي حال العودة الى جلسة مجلس النواب اليوم، فإنّ هناك من يعتقد ان عدداً من النواب سيطرح في بداية الجلسة التشريعية – اذا عبرت الاولى التقليدية في بداية العقد العادي على خَير – ومن باب الأوراق الواردة الدعوة الى تشكيل لجنة تحقيق برلمانية للنظر في الجرائم الموجهة الى رئيس الحكومة والوزراء والنواب الذين طالبَ المحقق العدلي الاستماع اليهم، وتشكيل المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب، وهو امر تعثّر سابقاً ولم يصل اليه مجلس النواب في ظل المناكفات الدستورية والقانونية التي تبادلتها الامانة العامة للمجلس وقاضي التحقيق عبر النيابة العامة التمييزية، والتي عُدّت في جانب منها تجاوزاً لحد السلطة وتدخلاً في الإجراءات القضائية لقاضي التحقيق العدلي، خصوصاً ما قام به في المرحلة التي افتقد فيها المطلوب الاستماع إليهم الحصانة النيابية التي يعتقدون أنهم سيستعيدونها اليوم، وهي نظرية ما زالت قيد النقاش من دون الحسم بصحتها من عدمه.
والى هذا التوقّع، هناك من يعتقد عند إثارة هذه المسألة ان توافرت لها الاكثرية النيابية، إمكان التقدم باقتراح قانون معجل مكرر لإنشاء «هيئة اتهامية عدلية استثنائية» نسب الى وزارة العدل في بداية الازمة، وان يكون من ضمن اختصاصها النظر في قرارات المحقق العدلي وتَقبّل الطعون بها. وهو إن لم يحظ بقبول حركة «امل» و»حزب الله»، فقد اعتبرته مراجع قانونية ودستورية حيادية أنه وبمعزل عن موقف الوزراء والنواب الشيعة منه فإنه يُعدّ «هرطقة قانونية» خلافاً للغاية من إنشاء المجلس العدلي وصلاحياته، والدوافع الى تشكيله، لما يشكّله من خروج على الأصول الدستورية، علماً انه، وفي حال التوافق عليه، فهو يحتاج الى «تعديل دستوري».
امام هذه الصورة التي ستكشف عنها اجتماعات قصر العدل وقاعة الاونيسكو، فقد باتت الدعوة حتمية الى انتظار ما يمكن ان يحدث اليوم في الساحتين. فإذا نجح الساعون الى تنحية البيطار، وما سيشكله من سوابق نيابية وقانونية ودستورية، فإنّ الثمن سيكون باهظاً. وفي حال العكس فإنه لن يكون الوضع أفضل في ظل المعادلة القائمة بين هذه الخطوات والاستقرار الأمني.
وختاماً، يعتقد المراقبون الحياديون أنه سيكون على «المخرج» لحل هذه الازمة ان يعتبر نفسه انه يعيش في «جمهورية موز»، فيدعو سَلفاً المحقق العدلي الثالث الى الإنطلاق من معطيات لا تعترف بها التحقيقات التي أجراها كلّ من القاضيين فادي صوان والبيطار، طالما انهما وصلا الى النتيجة عينها التي أثارت رفضاً شيعياً عارماً. فأُسقِط الاول بالارتياب المشروع، والثاني بالتنحية القسرية. وكل ذلك منعاً من ان تنتهي مهمة المحقق العدلي الثالث – إن قبل أحدهم بالمهمة – الى ما وصلَ إليه سلفاه، فنعود الى المأزق عينه. وعندها لن ينفع الندم. فإن سقطت السلطة القضائية في هذه التجربة المرة التي تعيشها، ستسقط معها السلطات الاخرى التنفيذية والتشريعية… وعلى الدنيا السلام.