IMLebanon

البيطار وتفاهة الدعاوى ضده

 

 

أمهات الكتب والمراجع القيّمة في القانون تجدها في فرنسا، لأنّها الأولى، منذ «كود نابليون» الذي بدأ بتوحيد معايير القياس للوزن والسعة والطول، إلى صياغة الدستور والقوانين الوضعية التي نشدت إحقاق الحق في العلاقات بين البشر. فرنسا المعلم الأول، هي أرسطو العالم، ثم كانت مصر المعلم الثاني، فارابي العالم العربي وبعدها لبنان. من حظهما أنّهما دخلا إلى الحضارة عن طريق احتكاكهما بالغرب، منذ أيام محمد علي باشا وفخر الدين المعني.

 

أول الرؤساء في لبنان قاضٍ وآخرهم عسكري. بدا المسار كأنّه انقلاب استبدادي على العدالة والقانون. مع أنّ الدساتير الديمقراطية نظّمت العلاقة بينهما على أساس التعاون والتكامل. فُشيّدت قصور العدل ليتعاون تحت قوس المحكمة فيها قاض وضابطة عدلية.

 

القاضي طارق البيطار لم ينكفئ ولم يعتكف بل اختار خلوة فقهيّة للرد على دعاوى الرد. لا يحق لنا أن نحكم على اجتهاداته، فأهل مكة أدرى بشعابها. ردات الفعل على عودة القاضي إلى مزاولة عمله كمحقق عدلي ليست واحدة. من التفكير بالتهرب من أحكامه أو التملّص منها أو الالتفاف عليها إلى الترحيب أو الإدانة أو التظاهر تأييداً أو استنكاراً، إلى التفكير بالاقتصاص من جرأته وعناده. وما بين هذه وتلك بلبلة لن يكون في منأى عنها لا السياسيون ولا الأمنيون ولا الإداريون المعنيون بانفجار الرابع من آب.

 

ما لفتني وأنا أكتب تحت عنوان «نظام التفاهة» هو الفارق بين من يتعامل مع القانون كنصّ مقدس ومن يتعامل معه كوجهة نظر. إن قصد فؤاد شهاب الدستور قال الكتاب، وهو لا يعني منه غير قداسته. أمّا في نظام التفاهة فانعدام الكفاءة هو المقدّس، إذ تحولت خلاله المساواة أمام القانون، وهي حق دستوري أقرته شرائع العالم الحديث، إلى إعطاء الجاهل حق النطق بالأحكام حتى على القضاة.

 

ثلاثة عشر شهراً قضاها القاضي البيطار في البحث عن حجج قانونية، فيما دعاوى الرد ضده لم تتطلب من خصومه والمعترضين على إجراءاته أكثر من آلة كاتبة ومحام يسجل الدعوى في قلم المحكمة. دعاوى الرد بالعشرات، ويمكن أن تكون بالمئات. هذا هو الفارق بين البحث العلمي وأحكامه القيّمة، أو بين الرصانة والركاكة أو بين الأصالة والتفاهة. هذه تحتاج كدّاً وجدّاً وجهداً ووقتاً وعرق جبين، وتلك لا تحتاج إلّا إلى بلطجة وتشبيح.

 

التطاول على القضاء بعض من أعراض نظام التفاهة، وهي متلازمة مع التطاول على العلم والكفاءة وتكافؤ الفرص. المارونية السياسية قبل الحرب، الأحزاب خلال الحرب بيساريها ويمينها، و»الحريرية» بعد الحرب، كانت تقدّم أفضل كفاءاتها لإدارة الشأن العام. في عصر التفاهة استبدلوا هذا المعيار، فشرّدوا متعلّمي لبنان ومثقّفيه وكفاءاته ومبدعيه في أربع أرجاء الأرض، وحوّلوا لبنان من بوابة الشرق ومستشفاه وجامعته ودور نشره إلى منصّة للشتم وساحة للتسوّل.

 

حسناً فعل القاضي البيطار حين تجاهل التافهين وجعلها معركة فقهية وقانونية داخل الجسم القضائي سعياً وراء أفضل الاجتهادات وأعدل الأحكام.