لا يخرج المشهد القضائي عن حالة الانحطاط العام التي يمّر بها لبنان. الأزمة أخلاقيّة قبل أن تكون سياسيّة وإقتصاديّة وإجتماعيّة ومعيشيّة رغم فداحة تلك الأزمات وضراوتها. ثمة من يقارب العمل السياسي في لبنان حصراً من زاويته المصلحيّة والفئويّة من دون أي إعتبار للمصلحة الوطنيّة العليا التي تختلف مفاهيمها بين فريق وآخر وهنا المشكلة الأعمق التي تعود جذورها إلى عقودٍ خلت.
قد يعتبر بعض العاملين في الشأن العام عموماً وفي السياسة اللبنانيّة خصوصاً أن الحديث عن الأخلاق في السياسة مسألة نظريّة مثاليّة طوباويّة متروكة للباحثين والفلاسفة الذين يملكون القدرة على العودة إلى كبار المفكرين السياسيين وشرح آرائهم وإقتراحاتهم لإنشاء “المدينة الفاضلة” مثل الفارابي أو من سبقه من فلاسفة اليونان الذين أرسوا أسس ودعائم العلوم السياسيّة التي لا تزال تُدرّس في الجامعات ليومنا هذا. ولكن هذا ليس صحيحاً.
لقد غرقت السياسة اللبنانيّة بالكثير من الوحول، وانحدر مستوى العاملين فيها إلى درجات غير مسبوقة. لبنان يفتقد رجال الدولة، يفتقد الشخصيّات التي تكون مستعدة للتخلي عن مطالبها الخاصة في سبيل المصلحة العامة، يفتقد الحداثة، النزاهة، الترفع، الشفافيّة، إحترام الرأي الآخر… هل هذا الكلام أيضاً يصبّ في الإطار النظري بدون أن يكون له أية مفاعيل تنفيذيّة في إطار الممارسة السياسيّة؟
من المستحيل قيام الدولة المرتجاة من دون قيام سلطة قضائيّة مستقلة. هذا صحيح. ثمة قوانين وتشريعات مطلوبة في هذا الإطار لكي يستقيم الوضع بشكل أو بآخر. إنما الحجة الحاضرة دائماً أن إرتهان القضاة في ترقياتهم وترفيعاتهم وتشكيلاتهم (التي لا تزال عالقة في القصر الجمهوري بالمناسبة) إلى السلطة السياسيّة يعيق قدرتهم على التحرّك. هذا صحيح في مكان ما. ولكن هل هذا كل شيء؟ أين رسالة القاضي النزيه الذي يفترض به أن يمارس مهامه القضائيّة من دون أي إعتبار للخلفيّات السياسيّة؟ ثمة قضاة يقومون بهذا الدور، من دون شك، إلا أن أعدادهم متواضعة قياساً إلى حجم المشلكة وعمقها.
القاضي هيبة قبل كل شيء. هيبته تتولد معه منذ لحظة قسمه اليمين في المحكمة، وتتكرّس مع جلوسه على القوس وإصداره الأحكام القضائيّة بإسم الشعب اللبناني. أليست هذه العناصر كفيلة بأن تمنحه حصانة ومهابة ورفعة وقدرة على لجم التدخلات من هنا وهناك؟ ليس المطلوب من القاضي أن يستعين بمناصري مرجعيته السياسيّة لتطبيق قراراته إذا كانت قانونيّة وتؤدي إلى إحقاق الحق، لا بل إن هذا السلوك يكرّس فكرة الدولة – المزرعة ويعكس مخاطر إمتداداتها إلى القضاء! إذا كان القاضي يعتبر نفسه فوق القانون، فكيف سيكون عادلاً في تطبيقه على سواه؟ القاضي رمز قبل أن يكون موظفاً، فتدمير هذا الرمز يرتد على السلطة القضائيّة برمتها ويشوّه ما تبقى من هيبتها بمعزل عن أحقيّة أو عدم أحقيّة القضية التي يعمل في سبيلها.
القضاء ليس استعراضاً شعبويّاً وبثاً حيّاً على شاشات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي. القضاء دوره وموقعه ووظيفته أعمق وأكبر وأسمى من ذلك بكثير.
إقرار قانون إستقلاليّة القضاء من قبل مجلس النواب مطلوب اليوم قبل الغد. إن التأخير المتمادي في إصداره بما يحترم بالفعل إستقلاليّة السلطة القضائيّة (بمعنى ألا يكون فولكلوريّاً وشكليّاً) ويمنحها الصلاحيّات الكاملة للقيام بدورها في مكافحة الفساد وتطبيق العدالة بين الناس، سيعني المزيد من التدهور والمزيد من الانحطاط الاخلاقي والسياسي، وسيؤدي عمليّاً إلى تدمير ما تبقى من الهيكل تمهيداً لسقوطه على رؤوس الجميع وهو ما بات يُعرف في اللغة الصحافيّة الجديدة بأنه يماثل “الارتطام الكبير”.
لقضاء مستقل الآن، قبل فوات الأوان!