بين القضاء والاعلام علاقة تشوبها البرودة. بتحفظ يتعاطى القضاء مع الاعلام. لا يحبذ تناوله او ابداء اي ملاحظات على عمله. يفضل ان يبقي نفسه خارج الاصطفافات السياسية والحزبية والطائفية منزهاً عن كل اتهام او تشكيك بدوره. واذا حصل وتم تناوله تنهال البيانات الشاجبة والمتهمة وكلها توضع في سياق المؤامرة للنيل من القضاء وسمعته. يريد القضاء ان يحافظ الجميع على سمعته بينما لا يبذل جهداً في هذا الاتجاه. متمترساً في عليائه لم ينجح القضاء بعد في نسج علاقة صحيحة مع الرأي العام من خلال الاعلام. هذا الرأي العام الذي لا يزال يرى في القضاء وأهله الامل المتبقي له في هذا البلد فهل يتعاطى القضاء مع نفسه على هذا القدر من المسؤولية. وهل يهتم فعلاً لحقيقة صورته لدى الرأي العام؟
مستظلاً خلف السرية يقف القضاء بقادته في الصفوف الخلفية رغم كل ما يعصف بالبلد من ملفات فساد وتحقيق جنائي وهدر وسرقة. تهم الفساد تتطاير في سمائه ويبقى هو الصامت الاكبر رغم السهام التي تصيبه أحياناً. مثلت جريمة المرفأ دليلاً وبعدها قضية هروب المساجين من سجن بعبدا. يكتفي القضاء ببيانات تصدر بين وقت وآخر بلغة تقليدية لم تواكب عصر التقنيات الحديثة والانفتاح وعصر الفضاء الرحب. معظم الناس لا تطّلع على هذه البيانات وما يهمها اكثر خروج السلطة القضائية تخاطبهم وتعلل وتشرح. أي لغة مشتركة بين القضاء والاعلام الحديث تقرب القضاء من الناس وتنزله من عليائه من دون النيل من موقعه كأعلى سلطة تتمتع باستقلاليتها في البلد. عام 2013 انشئ المكتب الاعلامي التابع لمجلس القضاء الاعلى لكنه فشل، من وجهة نظر اهل البيت الواحد، في تطوير عمله واخراجه بصورة مغايرة. ما يستدعي ملاحظة من شقين:
الشق العام والسؤال المبني عليه هل يجب ان يتعاطى القضاء مع الاعلام مباشرة؟ والشق الخاص المتمم له هل الممارسة الاعلامية لمجلس القضاء الاعلى والقضاء عموماً كان فعالاً خلال السنوات الماضية؟ يلاحظ اهل البيت الواحد من القضاة وجود خلل في التعاطي القضائي مع الاعلام.
يتوجه الاعلام الى الرأي العام الذي يعتبر تقييمه للقضاء تقييماً سلبياً يميل الى تحميله كله المسؤولية دون تمييز. ألم يحصل هذا الأمر في ضوء عملية فرار المساجين من بعبدا. للقضاء جزء من المسؤولية لكن مسؤولية الاجهزة الامنية تبدو اكبر بحكم مسؤوليتها عنها. المشكو منه في السلك القضائي تلك الممارسة التقليدية للاعلام من قبل مجلس القضاء الاعلى بالنظر الى كون الاكتفاء بالبيانات التقليدية والتوجه بلغة خشبية صار أمراً من الماضي مع تطور تقنيات الاعلام الحديث. كأن القيمين على الاعلام لا يتقنون لعبته بعد، فيشكو الكثيرون ومن بينهم القضاة من عدم وضوح الرؤية قضائياً والاكتفاء ببيانات مقتضبة لا تحمل التوضيحات المطلوبة، علماً ان غالبية الاعلام لم يعد يلتفت للبيان الرسمي، صار يريد خبراً مفصلاً واضحاً يؤدي مقصده في زمن الصورة والواتس اب والمواقع الالكترونية. ما الذي يمنع القضاء من الانفتاح على الاعلام والتواصل بأساليب جديدة بدل التنكر لوجودها؟
بين وقت وآخر يحرص مدعي عام التمييز غسان عويدات على التمايز اعلامياً باصدار بيانات متتالية وهذا برز خصوصاً خلال انطلاق التحقيقات في قضية المرفأ قبل ان ينتقل الملف الى المحقق العدلي، بينما يتفاعل نادي القضاة من خلال “تويتر” وصفحته على “فيسبوك” يضمّنها كل ما يصدر عنه من مواقف سابقة وآنية وهو اصدر مؤخراً بيانين شدد من خلالهما على متابعة التحقيق الجنائي. وتقول المعلومات ان هذا الخلل موضع معالجة ملحة استوجبت التعاون مع الاونيسكو لتنظيم دورات تدريبية لمجموعة من القضاة لتولي مسؤولية التواصل مع الاعلام . لم تعد السرية المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية مبرراً حتى للقضاة ذاتهم، هذه السرية بمعناها التقليدي ما قبل الثورة الرقمية لم تعد صالحة خاصة وان التزام السرية يجب ان يشمل الجميع وليس طرفاً معنياً دون آخرين. وفي حين يمارس القضاء سريته على ملفات، نرى ان تفاصيلها تنشر بحرفيتها ويتم تسريبها غالباً من قبل المحققين والاجهزة الامنية.
اعتاد الغرب المواكبة المباشرة لاي قضية قضائية تشغل الرأي العام. اي ان يطل المسؤول يومياً الى الاعلام شارحاً مسار التحقيق وخطواته، ولا يكتفي بصدور بيان خشبي بلغة غير جذابة، كتلك التي صدرت عن المرفأ من دون ان تصارح الرأي العام بالمعطيات، وما حقيقة التسريبات التي تقول ان التحقيقات لم تثبت حسب القوانين النافذة الا وجود الاهمال الوظيفي والتسبب بالوفاة وهو ما لا يخرح عن اطار كونه جنحة.
موجب التحفظ للقاضي حوله الى شخص اخرس، وهذا ما يكشف وجود خلاف بين التيار الجديد من القضاة والتيار التقليدي حول تحديد مفهوم التحفظ. استمرار التيار التقليدي على ممارسته بحجة التحفظ قد توصله الى مرحلة يمنع التعاطي مع الاعلام ويحصر الامر بما يصدره هو لوسائل الاعلام.
اما التيار الجديد فيعترف بموجب التحفظ لكنه يحصره بمحتوى الملفات التي ينظر فيها. فهل يجب على القاضي المعني التعاطي كآلة خرساء منطلقاً من منطق فيه جلد للذات؟ يفترض بالقضاء ان يتعاطى ويمارس الاعلام بشكل مباشر من خلال متخصصين ويمارس العمل القضائي مع مراعاة الثورة التكنولوجية التي تقوم على الصورة والسرعة والخبر الصحيح لا ان يكتفي بسياسة البيانات التي تزيد الغموض غموضاً.
في القضاء اليوم ثلاثية متعارف عليها (رئيس مجلس القضاء، مدعي عام التمييز ووزير العدل) وهي غير موحدة ومنسقة اعلامياً. قبل ان يدخل القضاء قفص الاتهام ويصبح في عداد المتهمين، المطلوب حسب بعض القضاء رؤية اعلامية موحدة لا يتسابق القضاة على التشكيك بها وكيل الاتهامات. بالمناسبة هنا لم نشهد اطلالات لرئيس مجلس القضاء الاعلى مثلاً او مدعي عام التمييز تقول او تفضح ما لديها. وهل يعقل ان يبرئ السياسيون انفسهم فيما يبقى القضاء موضع تشكيك؟