من حقّ الرأي العام اللبناني والعربي والدولي أن يطّلع على مسار التحقيقات القضائيّة في ملفّ تفجير الرابع من آب الذي هزّ العاصمة اللبنانيّة ودمّرها، وهو ثالث أكبر تفجير في العالم.
ومن حقّ أهالي الضحايا الذين سقطوا في هذا الإنفجار المروّع أن يعرفوا ما إذا كانت ستتحقّق العدالة التي من المفترض أن يوفّرها القضاء. ومن حقّهم أن يعلموا من المسؤول عن قتل أولئك الأبرياء الذين توفّوا في بيوتهم أو على الطرقات أو الشرفات.
صحيحٌ أنّ التحقيقات يُفترض أن تتّسم بالسريّة، حفاظاً على مسارها وتأكيداً على ضرورة وصولها إلى الإمساك بكلّ المفاصل والمحطّات المرتبطة بهذا الملفّ الكبير، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ الإكتفاء بالنشر الإعتباطي لبعض مسارات التحقيق لا يضرّ بصورة القضاء وسمعته فحسب؛ بل أيضاً يُفقد القضاء مصداقيته ودوره ورسالته.
لا شكّ أنّ كلام وزير الداخليّة عن فساد القضاء بالطريقة التي تمّ فيها مُستهجن، أقلّه لما فيه من تعميم يذهب فيه “الصالح بعزاء الطالح” كما يُقال. ولكن، هل هناك مواطن لبناني واحد يستطيع أن يقول اليوم، بالفم الملآن، إنّه أصبح لدينا سلطة قضائيّة مستقلّة قادرة على كشف كلّ الخيوط والملابسات المتّصلة بالجرائم السياسيّة، على سبيل المثال؟
الأسبوع الماضي، كتبنا أيضاً عن القضاء وهيبته المثقوبة وسلطته المنقوصة ورسالته المشوّهة. للأسف، القضاء يقدّم للبنانيين براهين يومية على عجزه وتردّده، على خوفه واستزلامه، على خيانته لقسمه ودوره. مُجدّداً، ليس كلّ القضاء، ولكن…
ثمّ سؤال آخر: هل يعمل القضاء بمعايير الضغط الذي يمارسه الرأي العام حيال قضية معينة؟ بمعنى، إذا ضغط الرأي العام والإعلام والأحزاب السياسية والمجتمع المدني في ملفّ معيّن يتحرّك القضاء، وإذا لم يفعل لا يتحرّك؟ وعندما يتحرّك، هل يقوم بذلك بهدف امتصاص حالة الضغط العارمة، أم بهدف محاسبة المسؤولين والمتورّطين في الملفّ الذي تمّت إثارته؟ ثمّ، هل يكون مضمون حركته مُرتبطاً بما تطالب به الحركة الإحتجاجيّة، أم بناء لمعطيات الملفّ ومكوّناته وعناصره ربطاً بالقوانين والتشريعات ذات الصلة؟
الفولكلور فنّ شعبي وتراثي جميل، ولكن لا يصلح تطبيقه في القضاء. إذا كان من قطاع يُفترض به أن يلتزم القوانين فهو القضاء المؤتمن على تطبيقها لتحقيق العدل بين الناس، والعدل أساس الملك. لا يكفي أن يكون هذا الشعار مرفوعاً على قصور العدل، فالقضيّة لا تتّصل بالشعارات الشكليّة، بل بالنهج والسلوك والعمل الحثيث لإثبات هيبة القضاء ودوره المفصلي في قيام الدولة المرتجاة.
لقد نالت تجربة القاضي الإيطالي أنطونيو دي بييترو في مطلع التسعينات شهرة دولية واسعة، عندما قاد عملية “الأيدي النظيفة”، وتحوّل أسطورة لإطلاقه أوسع حملة لمكافحة الفساد، وقد شملت توقيف نحو خمسة آلاف مشتبه به في شبكة مافيوية منتشرة على كامل الاراضي الإيطالية وفي مختلف القطاعات. أليس من أنطونيو واحد بين القضاة اللبنانيين؟ ألا يمكن أن نرى قاضياً واحداً ينتفض على الواقع القائم، بدءاً من رفع الصوت رفضاً لتمنّع رئيس الجمهوريّة، لأسباب مصلحية واعتباطية على حدّ سواء، لتوقيع مرسوم التشكيلات القضائية؟ أليس هناك من يتجرّأ على القول له إنّه يخون قسمه الدستوري الذي تلاه أمام المجلس النيابي يوم انتخابه (وهو الإنتخاب الذي حصل بعد شلّ المؤسسات لمدّة عامين ونصف، للتذكير فقط!). بلى، الأكيد أنّ في وجدان كلّ قاضٍ لبناني شريف هناك من يحمل حماسة أنطونيو وجرأته وشجاعته، ولكن ليس هناك ما يبرّر الإنتظار والتأخير. لبنان بحاجة لثورة قضائيّة الآن!