ليس سهلاً أن تستدرج قاضياً سابقاً كبيراً الى إعطاء رأي صريح في ما يشهده السلك القضائي. وعلى وقع الدهشة التي يعيشها وزملاؤه، لم يجد وصفاً دقيقاً، ما دفعه الى الخشية من محاولة جدّية لتدمير المؤسسات بنحو منهجي. فبالتزامن مع تقييد السلطة التشريعية وشل السلطة التنفيذية، تحول القضاء هدفاً مباشراً بنحو غير مسبوق. ولما أمعنت التدخّلات فيه، رصدت الانتفاضة الاخيرة للسلطة القضائية، على أمل ان تلزم زميلاتها باحترام مبدأ الفصل بين السلطات. فهل سيتحقق ذلك؟
على غير عادة وبلا أي سوابق في أي من الاستحقاقات الصعبة والخطيرة التي عاشتها البلاد في العقود الخمسة الماضية، لم تشهد السلطات والمؤسسات الدستورية والسلطة القضائية منها خصوصاً، ما تشهده من كيد سياسي يقود الى شلّها وتهديد وجودها وسلامتها وتجميد مهماتها وما أُريد منها ولها. وهو امر إن تواصلت حلقاته المتكاملة التي بدأت منذ فترة غير قصيرة، يؤكّد انّ ما يجري في سياق رُسم سلفاً وتقرّر عن سابق تصور وتصميم وبطريقة منهجية، تؤذن بوجود مخطط كبير يهدف الى تدميرها واحدة بعد أخرى.
على هذه الخلفيات، وبلا أي اعتبار يقود الى تضخيم ما هو حاصل او القول إنّه أمر وهمي، فقد عبّر مرجع قضائي سابق عن جملة مخاوف مشروعة جعلته يعيش حالاً من الكآبة لم يشهد لها مثيلاً. فهو، وإن عاد بالذاكرة الى مجموعة التحدّيات التي واجهها في حياته المهنية وفي ظروف صعبة، لم تصل الامور الى ما وصلت اليه. فالسقوف العالية والاتهامات الكبيرة التي وُجّهت من منابر سياسية وحزبية وقضائية لم تكن واقعية ومنطقية. فالجسم القضائي حافظ على نسبة عالية من الوحدة الحقيقية التي مكّنته من تجاوز كثير من الأزمات الوطنية، وبقي بعيداً من ان يكون مسرحاً للمناكفات على أنواعها، وبقي في موقع تعالى فيه على الجروح نتيجة الاعتداءات التي استهدفته. وإن كان اخطرها قد نُفّذ بتلك الرصاصات القاتلة التي اغتالت قبل 22 عاماً اربعة من خيرة قضاة لبنان (6 حزيران 1999) في أثناء وجودهم على قوس محكمة جنايات لبنان الجنوبي في قصر العدل القديم – وسط مدينة صيدا وفي وضح النهار، فإنّ ما يجري اليوم يبدو أكثر خطورة إن تمّ النظر اليه بخلفياته السياسية والقضائية والمعايير الأخرى المختلفة.
وإن عاد القاضي إلى تلك الحادثة ليعتبرها أقل وطأة وخطورة مما يجري اليوم في سلك القضاء، فمردّه الى انّ الظروف تبدّلت عمّا كانت عليه في تلك الفترة، وأنّ هناك ما أُنجز على أكثر من صعيد لتعزيز الوحدة الوطنية والنأي بالنفس عمّا يجري في المنطقة والعالم. وقيل إننا نحن ممن خبرنا خطورة ان تبقى ساحتنا الداخلية عرضة لكثير مما لا ناقة ولا جمل لمعظم اللبنانيين فيه. وأننا في مرحلة أعدنا فيها بناء الاجهزة العسكرية والامنية والإجتماعية، وقد دخلنا مراحل متقدّمة للحفاظ على ما تحقق.
ويستدرك القاضي العتيق ليقول، كنا نأمل ان نستمر في إعلاء ذلك البنيان، ولكن للأسف فقد أُصبنا بما لم نكن نتوقعه، فانهار معظم الإنجازات، ليس لأنّها بُنيت على رمال متحركة، بل لأنّ هناك من قرّر هدمها وإعادة لبنان الى مرحلة كنا نعتقد اننا تجاوزنا تداعياتها. وتلاحقت الانهيارات من اقتصادية ونقدية الى سياسية وأمنية، زادت منها جريمة تفجير المرفأ التي رفعت من نسبة خطورتها، بعدما محت بدقائق قليلة مظاهر البنيان التي ارتفعت في العاصمة، وحصدت ما لم يحصده اي زلزال من قبل، وتركت في النفوس ما لا يُمحّى بسهولة، عدا عن فقدان مئات الأعزاء على قلوب عائلاتهم، واصيب الآلاف بعاهات دائمة وتدنت معنويات اللبنانيين على وقع الأزمة النقدية والصحية، وباتت الهجرة حلماً في وطن فُقدت فيه مقومات العيش لنسبة كبيرة من أبنائه، وخصوصاً من أصحاب الكفايات والخبرة.
لم تتكون كل هذه الملاحظات لدى القاضي العتيق من عبث او من فراغ. واضاف، انّه وبدلاً من ان تقود كل هذه التطورات المأسوية الى حماية المؤسسات واحترام صلاحياتها وادوارها، والحرص على انتظام العمل في ما بينها، ولا سيما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة والقضائية من جهة أخرى، فالفصل بينهما واجب الوجوب، في اعتبار انّ القوى العسكرية والامنية بقيت بوجودها ومناعتها خارج التصنيف السياسي او الأمني. وكل ذلك من اجل ان يؤدي كلٌ دوره في سبيل كشف الحقائق المتصلة بجريمة العصر وإعطاء المنكوبين نوعاً من الراحة النفسية التي تعوّضهم ما فقدوه من غالٍ ونفيس. وبدلاً من ذلك تفشّت الحروب الداخلية والعبثية. وإذ تمّ اللجوء الى القضاء لمعرفة الخيط الأبيض من الأسود، راح البعض يسعى الى استثمار ما حصل لتنفيذ أجندات خطيرة أعادت لبنان الى قلب النزاع القائم في المنطقة وبات القضاء الذي كان ملجأ آمناً للبنانيين هدفاً من أجل تعطيل اي محاولة تكشف أسباب ما حصل في المرفأ.
وهكذا، يؤكّد القاضي المرجع، انّ المخاوف على الجسم القضائي لم تكن بهذا الحجم الذي بلغته الهجمة غير المسبوقة. فبعد المحاولة الفاشلة للسلطة التشريعية لوضع يدها على القضاء سعى البعض الى استخدام السلطة التنفيذية من أجل الغاية عينها. ولما فشلت كل الخطط بات القضاء مستهدفاً من الداخل والخارج فنشأت حالات غريبة عجيبة لم يعرفها الجسمان القانوني والقضائي من قبل. فتمّ تطيير قاضي التحقيق العدلي الأول في غفلة من الزمن، واستُهدف الثاني لمجرد انّه اقترب من بعض خيوط اللعبة، حيث تمّ لجم الاول وبدأت المحاولات لتطييره تارة بالتهديدات المنقولة على ألسنة الإعلاميين، وصولاً الى الإستهداف المباشر وبالأسماء والصفات التي لم يكن يعرفها اللبنانيون. وأمعن البعض في استخدام حقوق الدفاع إلى الحدّ الأقصى ومن على المنابر السياسية والدينية والحزبية وحتى المذهبية منها، وبات الدفاع عنه كما الهجوم مستهجناً، الى ان بات الجسم القضائي بكامله مستهدفاً، بعدما تطورت الهجمة على الأشخاص الى السلك بكامله.
ويختصر القاضي العتيق ليقول، انّ في مجمل القرارات الاخيرة التي اتخذتها الهيئة العامة التمييزية في متفرعات جريمة المرفأ، ما يشكّل رداً على محاولات ضرب الجسم القضائي الذي رفض التوغل في شؤونه الداخلية وردّ مدعوماً بنادي القضاة وبما يمتلكه من سلطة ودور لحماية جسمه وليبقى حامياً للحدّ الأدنى من الحقيقة المتوافرة والتشديد على مبدأ الفصل بين السلطات. فهل سيلتزمون ويعترفون بالضربة الناجحة التي نفّذتها السلطة القضائية، ليس لمصلحة القاضي طارق البيطار، انما لمصلحة السلك الذي يجب ان يكافح من أجل استقلاليته وحماية خيرة قضاته، بوقف مسلسل الاستقالات اياً كانت أسبابها وخلفياتها؟ وهل سيعترفون بالهزيمة ولو لمرة واحدة قبل خراب البصرة؟