الخط الفاصل بين سهيل عبود وفيليب خيرالله
ليست هي التشكيلات القضائية الأولى التي تحصل في لبنان. وليست هي المرة الأولى التي يُحكى فيها عن تطهير القضاء أو استقلاليته أو تحصينه بعيداً من تدخّل السلطة السياسية. قد لا يخلو عهد من العهود الرئاسية منذ الإستقلال وربما قبله من التدخّل السياسي في القضاء. بعد كل هذه التجربة على مدى هذه السنين وبعد كل هذه التركيبة القضائية والسياسية، هل يمكن الحديث عن قضاء مستقل في لبنان؟ كأن عدم الإستقلالية باتت مسألة وراثية لا يمكن الخروج عليها.
لا يمكن وضع تجربة مجلس القضاء الأعلى ومسألة التشكيلات القضائية التي يقترحها مع وزيرة العدل ماري كلود نجم خارج هذا السياق. فالمشكلة لا تبدأ من رأس هرم القضاء بل من قاعدته أيضاً. وهي محكومة بالواقع والممارسة برأس أو برؤوس السلطات السياسية.
فؤاد بطرس والياس سركيس
من بيت القضاء جاء الوزير فؤاد بطرس إلى السياسة. هو واحد من اثنين اختارهما فؤاد شهاب. الثاني هو الياس سركيس الذي كان قاضياً في ديوان المحاسبة بعدما عمل لفترة في السكة الحديد عندما كانت تعمل. من تجربته بين السياسة والقضاء كان فؤاد بطرس يعرف سرّ العلاقة بين السلطتين. كان يعرف أن السلطة السياسية لا بدّ من أنها تتدخل في عمل القضاء، وعندما كان يحكى عن استقلالية القضاء كان فؤاد بطرس يقول إن بعض القضاة إذا لم يتمّ الإتصال بهم من السلطة، فإنهم يذهبون إلى الإتصال بها بحثاً عن خدمة أو عن حظوة أو عن منصب. بقي بطرس مترهّباً في السلطة السياسية وكأنّ القاضي العادل ما انفكّ عن الرباط المقدس بروح العدالة. هذه الروح التي طالما تحدث عنها الدكتور أدمون نعيم في مرافعاته في قضايا محاكمة الدكتور سمير جعجع و”القوات اللبنانية” تبقى أهم من نصوص العدالة. وطالما استمع إليه رئيس المجلس العدلي القاضي فيليب خيرالله الذي تدرّج محامياً في مكتب فؤاد بطرس، إلا أنه دائماً ذهب إلى النصوص أكثر مما ذهب إلى الروح.
عندما رفض الياس سركيس الموافقة على معاملة مالية غير قانونية على رغم أن من كان وراءها أوحى إليه، أنها تحظى بموافقة قائد الجيش حاز على احترام القائد الذي دوّن اسمه في مفكرته الصغيرة. وعندما صار رئيساً للجمهورية استدعاه إلى مملكته الجديدة. بقي الياس سركيس زاهداً في السلطة راسخاً في روح عدالته مترفعاً عن السياسة وزواريبها. هكذا نجح في المديرية العامة للقصر الجمهوري وفي حاكمية مصرف لبنان وفي رئاسة الجمهورية. أثرى خزينة الدولة بالذهب وخرج من رئاسة الجمهورية نظيفاً كالذهب.
فيليب خيرالله وما لا يُرى
كان القاضي فيليب خيرالله بعيداً من السياسة. في كل توجيهاته الداخلية رئيساً لمجلس القضاء الأعلى كان يحرص على توجيه القضاة نحو الإبتعاد عن المظاهر، وعن المشاركة في المناسبات العامّة والخاصّة والبقاء خارج دائرة التأثر بالتدخّلات السياسية. وكان يُطلَق عليه لقب راهب العدلية، وهو كان كذلك بالفعل في حياته الخاصة مؤمناً ممارساً بعيداً من المظاهر لا يُرى في أي احتفال أو حفل خاص، ومع ذلك لم يستطع أن يكون مستقلاً عن السلطة السياسية. عندما صدر القرار السياسي بمحاكمة الدكتور سمير جعجع و”القوات اللبنانية” خضع له وطبّقه. استقال القاضي وجيه علويّة من مجلس القضاء الأعلى احتجاجاً على مجريات المحاكمة والتوقيفات والتحقيقات والإعتقالات، ولكن السلطة السياسية عيّنت قاضياً آخر محلّه واستمرّت المحاكمة. كان خيرالله عالماً ومدركاً بكل ما يحيط بهذه المحاكمة من خلفيات سياسية وكيدية وانتقام، ومع ذلك بقي مواظباً على استكمالها. على رغم اعتكاف وكلاء الدفاع عن الدكتور سمير جعجع وعدم حضورهم الجلسات، وعلى رغم امتناع جعجع عن الكلام وعلى رغم أن أكثر من شاهد حضر أمامه وقال أنه تعرّض للتعذيب، وعلى الرغم من إمساك المخابرات وعهد الوصاية بالملف بالكامل، تابع خيرالله من موقعه مهمة “سير العدالة” لأنه اعتبر أن لا شيء يمكن أن يحول دونها. في النهاية خرج من رحاب قصر العدل ليكتب كتاب مذكّراته ويبرّر ما فعله، معتبراً أنّه حدد سقفاً للأحكام تحت حكم الإعدام، بانتظار أن يكون هناك حلّ سياسي لقضية الدكتور سمير جعجع كما كان في مسألة محاكمة القوميين السوريين، بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة التي نفّذها حزبهم في نهاية العام 1961. بين عويدات وعضوم
القاضي منيف عويدات كان مدعياً عاماً للتمييز عندما بدأت محاكمة “القوات اللبنانية” والدكتور جعجع. في كرسيّه إلى يمين هيئة المجلس العدلي كان يحرص على أن ينفّذ مهمة وظيفته التي تعتبر مكمّلة لتنفيذ ما تطلبه السلطة السياسية. ولكنّه خارج هذا المقعد كان يذهب إلى البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، مقترحاً السبيل الواجب اتباعه لتوسيع قاعدة العفو العام. ولكن الوظيفة كانت دائماً الأولى. كان القاضي هشام قبلان أحد مساعديه في النيابة العامة التمييزية، وكان مدركاً لما يحصل خلف خطوط العدالة من تدخلات، وبعدما ناب عنه في أكثر من جلسة اختار أن يخرج من هذه المسألة، التي اعتبر أنها مسيّسة ولم يأخذ عويدات بنصيحته بالإبتعاد عن هذا الملف. بعد عويدات كانت مهمة القاضي عدنان عضوم سهلة من خلال جمعه بين السلطتين القضائية والسياسية، ذلك أنه كان أيضاً ملتزما بتلبية ما يطلب منه.
كامل مروة وقليلات
عندما اغتيل مؤسس وصاحب جريدة “الحياة” كامل مروّة في 16 ايّار 1966 تمّ القبض على قاتله عدنان سلطاني الذي اعترف بأنه أطلق عليه النار، بطلب من ابراهيم قليلات الذي كان يعمل مع المخابرات المصرية. بقي قليلات فاراً من وجه العدالة وكان رئيس المجلس العدلي القاضي شفيق أبو حيدر، وكانت رغبة السلطة السياسية تبرئة قليلات والحكم المصري، إذ كان السفير المصري في بيروت عبد الحميد غالب يملك القدرة على التأثير في القرارات السياسية والقضائية. بسبب اعتراض أبو حيدر تم تشكيله وتعيين قاض آخر محله هو بطرس نجيم. كان قليلات خارج لبنان وكان وكيله المحامي عبدالله الغطيمي. تمّ تنسيق مسألة عودته إلى لبنان. على المطار استقبله الغطيمي ومرّ من دون توقيفه على رغم وجود مذكرة توقيف في حقّه واصطحبه مباشرة إلى قصر العدل، لينتقل من هناك إلى غرفة في مستشفى قبل أن يصدر الحكم النهائي ببرائته.
سهيل عبود والمهمة الصعبة
تعيين القاضي سهيل عبّود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى لم يمرّ بسهولة. جرت محاولات كثيرة مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لإقناعه بتبنّي تسميته، بعدما كانت هناك اعتراضات عليه بسبب عدم وضوح ولائه السياسي للعهد. كأنّ قاعدة التعيين هي تمتّع القاضي بهذه الميزة. مشكلة الولاء السياسي داخل القضاء لا تبدأ من رأس الهرم بل من قاعدته. المسألة تعود إلى تسمية القضاة من الدرجة الأولى قبل التعيين وبعده. المحاصصات موجودة والولاءات موجودة والإستقلالية موجودة أيضاً، ولكنّها لا يمكن أن تشكّل حالة مستقلّة قادرة على تغيير الصورة المتكوّنة عن عمل السلطة القضائية. على هذا الأساس يشكّل الجسم القضائي سلسلة من التقاطعات التي يمكن أن تشلّ عمله وأن تعطّل بعضها، إذا ما تمّ تقديم عدل السياسة على عدل القضاء والعدالة.
بحكم هذه التركيبة تحظى كل التركيبات السياسية بمواقع داخل الجسم القضائي، بحيث يصبح من المستحيل أن يتمّ تمرير العدالة من دون تدخّل سياسي، أو بالإستقلال عن فيتوات المكوّنات السياسية التي تتحكّم ببعض المفاصل القضائية. من هنا يصبح البحث عن استقلالية القضاء في هذا الزمن الصعب شبه مستحيل. وتبدو مهمة القاضي عبّود شبه مستحيلة أيضاً مع أن التشكيلات المقترحة أُقِرّت بإجماع أعضاء مجلس القضاء الأعلى، ومنهم مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات. ومن هنا يأتي خوف السطة السياسية من أن تكون التشكيلات القضائية فعلًا مستقّلة وموضوعية، لأن هذه السلطة إذا فقدت سلطتها على القضاء تكون قد فقدت ركيزة هامة من تسلّطها. ومن هنا يأتي اعتراض وزيرة العدل ماري كلود نجم على هذه التشكيلات، وهي لم تتوانَ عن القول أن مجلس القضاء الأعلى كان نتيجة محاصصة سياسية في إشارة إلى خلفيات تعيين عبّود وعويدات وسائر الأعضاء الآخرين، بحيث أنه لا يمكن أن يكون مستقلًا في تشكيلاته. اعتراض نجم يحيله كثيرون إلى اعتراض رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي ما كان تعيين عبّود في منصبه ليتمّ لولا موافقته باعتبار أن هذا المنصب محسوب له وعليه. ولكنّ هذا الأمر يطرح مسألة بالغة الأهمية: هل يستطيع قاض وافقت على تعيينه السلطة السياسية أن يتمرّد عليها؟ وهل يمكن لهذا القاضي أن يغيّر مسار العدالة تحقيقا لروح العدالة؟ تلك هي مهمة القاضي عبّود مع أعضاء مجلس القضاء الأعلى الذين تمّت تسميتهم نتيجة توافق سياسي عليهم. وهل يجمع عبّود بين رهبنة فيليب خيرالله وشخصية القاضي فؤاد بطرس والحاكم الياس سركيس وروح عدالة أدمون نعيم؟ مع الإشارة إلى أن سهيل عبّود هو ابن القاضي نديم عبّود وغسان عويدات هو ابن القاضي منيف عويدات.