بعد أن أفرج مجلس القضاء الأعلى عن التشكيلات القضائية الجزئية، أُحيل المرسوم إلى جانب معالي وزير العدل الذي وقّعه بتاريخ 23/3/2022، وأحاله إلى جانب معالي وزير المال، حتى يسلُك طريقه إلى رئاسة الحكومة، وصولاً إلى رئيس الدولة.
فالسؤال الأوّل المطروح يبقى:
هل كان يقتضي إحالة المرسوم إلى جانب معالي وزير المال للتوقيع، أم كان يقتضي إحالته فورًا إلى رئاسة الحكومة، ومنها إلى الرئاسة الأولى؟
صحيح أنّ توقيع الوزير المختصّ إلى جانب توقيعَي رئيس الحكومة ورئيس الدولة، هو شرط جوهري لنفاد المقرّرات أو المراسيم، إضافةً إلى كونه موجبًا دستوريًا أساسيًا (قرار مجلس شورى الدولة تاريخ 16/11/1995- منشور في مجلة القضاء الإداري لعام 1996).
ولكن هل وزير المال يُعتبر وزيرًا مُختصًا، لكي يوقع مرسوم التشكيلات القضائية الجزئية؟
بالعودة إلى دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية (المادة /19/ منه) يتبيّن جلياً أن النص حدّد الوزراء المسؤولين والمختصين، بعبارة «Les ministers responsables» والمقصود بذلك، الوزراء الذين يقع على عاتقهم بصورة رئيسية تحضير المرسوم والإشراف على تطبيقه (دراسة للدكتور ضاهر غندور- منشورة في مجلّة القضاء الإداري في لبنان- العدد العاشر- لعام 1997).
وتطبيقًا لهذا التعريف، فإنّ الوزير، والذي يقع على عاتقه بصورة رئيسية تحضير مرسوم التشكيلات (بالتفاهم مع مجلس القضاء الأعلى) والإشراف على تطبيقه، هو جانب معالي وزير العدل حصرًا، وليس وزير المال حُكمًا. لا سيما أنّ مرسوم التشكيلات الجزئية لا يُرتّب أي أعباء إضافية على الخزينة. إنما بعض العلاوات والمخصّصات نتيجة الترفيع. وهي ملحوظة أساسًا في موازنة وزارة العدل ومرصودة لرؤساء غرف التمييز.
وبالتالي، لم يكُن يقتضي إحالة المرسوم إلى جانب معالي وزير المال، إنما كان يُفترض إحالته فورًا من وزارة العدل إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء.
أمّا اليوم، وبعد أن أُحيل المرسوم إلى جانب معالي وزير المال، فهل يحق لهذا الأخير احتجازه إلى أجَلٍ غير مُسمّى؟
من الثابت أنّ مرسوم التشكيلات القضائية يصدر بمرسوم عادي، وفقًا لما جاء نصّه في المادة /54/ من الدستور.
ومن الثابت أيضًا، أن المادة المذكورة نصّت حرفيّاً على ما يلي:
«مُقرّرات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك في التوقيع عليها…».
واستعمال المشترع عبارة «يجب» يعني أن المشرّع فَرَضَ على رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختّصين، التوقيع مع رئيس الدولة. وبالتالي، عدم التوقيع يؤدّي إلى اعتبار مَن يمتنع عن التوقيع مُخالفًا لأحكام الدستور (الثغرات الدستورية في دَور وصلاحيات رئيس الجمهورية- للدكتور ميشال عيد قليموس- ص /183/)
فضلاً عن كَون موجب التوقيع يُعتبر موجبًا دستوريًا مُلزمًا أساسيًا. وليس في استطاعة الوزير استنساب التوقيع من عدمه، وإلاّ يكون مُقترفًا لمخالفة دستورية موصوفة.
ومع بدايات عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي، أثارت مسألة عدم توقيع رئيس الحكومة أو الوزير المختصّ على القرارات والمراسيم خلافات جمّة. حيث اختلف الرئيس الهراوي مرارًا وتكرارًا مع دولة الرئيس سليم الحص ودولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
فمع بداية الألفية الثانية، إمتنع يومها رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص عن توقيع مرسوم إعدام، لأسباب ذكر بأنها إنسانية وأخلاقية خاصة. فعاجَله الرئيس السابق للحكومة «عمر كرامي» وفي تصريح له في صحيفة «النهار» بتاريخ 22/3/2000، دَعاه فيه إلى اعتماد خيار من اثنين: «إمّا التوقيع على المرسوم وإمّا الإستقالة».
مع الإشارة أيضًا الى أن المادة /54/ من الدستور أناطت برئيس الدولة صلاحية إصدار «المُقرّرات» أي (المراسيم العادية) لترجمة الصلاحيات والتي مُنحت له بموجب المادة /53/ منه. وإلاّ كيف تُترجم هذه الصلاحيات مِن مَنح عفو خاص، أو اعتماد سفراء أو قبول اعتمادهم أو تشكيلات قضائية شاملة أم جزئية، إن أجَزنا لأي وزير بمُصادرة أي من المُقرّرات والتي هي (بالأصل) من صلاحية رئيس الدولة ؟
وبالتالي، السّماح لمعالي وزير المال بمُصادرة مرسوم التشكيلات القضائية الجزئية اليوم، يعني تعطيلاً لصلاحيات رئيس الجمهورية وتعدّيًا عليها. فصلاحية إصدار المراسيم العادية تعود حصرًا لرئيس الدولة، ولا يجوز لأي وزير (ولأي فريق انتمى) مُصادرة صلاحيات رئيس الدولة وتعطيلها والسَطو عليها.
أما التحجُّج بعدم ميثاقية المرسوم، لا يستقيم، كَون التشكيلات لَحَظَت دائمًا وبعد الطائف، 10 غرف لمحاكم التمييز، لا يترأس أي منها رئيس مجلس القضاء الأعلى. وكانت التشكيلات السابقة انتهجت هذا المسار، وآخرها تشكيلات عام/ 2020/ والتي وقّعها معالي وزير المال «الأستاذ غازي وزني» (المحسوب على الرئيس برّي) من دون أي اعتراض.
أما التعييب أنّ رئيس الجمهورية صادر مرسوم التشكيلات القضائية الشاملة عام /2020/ كذلك مراسيم تعيين مأموري الأحراج، لا يستقيم أيضًا، كَونه لا يمكن تبرير خطأ بخطأ مُقابل.
علمًا أنّ تصرُّف جانب معالي وزير المال راهنًا، ولَو أتى من أي وزير آخر، كان يُمكن أن يفتح باب المُساءلة الدستورية، تحت عنوان الإخلال بالواجبات المترتّبة عليه (المادة /70/ من الدستور) كذلك، باب المُساءلة السياسية بِطَرح الثقة به في المجلس النيابي (المادة /37/ معطوفة على المادة /68/ من الدستور).
لأن تعطيل صلاحيات رئيس الدولة ودَوره ليس بالأمر السهل، ولا يجب المرور عليه مرور الكِرام.
وفي الخِتام، ليس بالتخوين والتهويل نُحافظ على هيبة الرئاسة، كما حصل مساء الإثنين في حلقة حوارية على شاشة «الجديد» مع الصحافي الصديق «سيمون أبي فاضل». إنما بالدّفاع عن صلاحياتها الدستورية، والإصرار على استرجاعها، حتى ولو كلّف الأمر مواجهة مع الحلفاء ورفاق الدرب الإنتخابي. فصلاحيات رئيس الدولة مُقدّسة، ولا يجب أن نسمح لأي وزير بتدنيسها والإطباق عليها.