ترقد التشكيلات القضائية في الوقت الحاضر على الرف، بعدما قلب انتشار وباء كورونا الأحوال رأساً على عقب. لم يعد ثمة محل للاستحقاقات السياسية والاقتصادية ولا النزاعات المحلية يجعلها تتقدم على سبل وقف تفشيه
لم يكتفِ الاهتمام بوباء كورونا بتأجيل الخوض في أحد أبرز ملفات حكومة الرئيس حسان دياب لتلميع صورتها، هي التشكيلات القضائية. بل فتح إعلانها التعبئة العامة في البلاد، والحجر الصحي على المرافق كلها وشلّها تماماً، وعلى اللبنانيين في بيوتهم، باباً على مشكلات إضافية غير محسوبة تأثرت للفور بالتعبئة العامة.
أبرز الأولويات الجديدة التي تعكف عليها وزيرة العدل ماري كلود نجم مع مجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين، إيجاد حلول لمشكلات مستجدّة، منها تعليق جلسات المحاكم ومصير الموقوفين وتسهيل تنفيذ طلبات تخلية السبيل. ناهيك بأوضاع أفراد ادّعت عليهم النيابات العامة ولم يمثلوا بعد أمام قضاة التحقيق، وتالياً سريان المهل القانونية لوجودهم لدى الضابطة العدلية، في انتظار اتخاذ قضاة التحقيق قرارات تخليتهم أو إصدار مذكرات توقيف في حقهم. بيد أن ذلك يوجب مثول هؤلاء أمامهم واستجوابهم. ذلك ما يحمل وزيرة العدل على تأكيد الحاجة الى “خريطة طريق” لمعالجة المشكلات هذه مع المرجعيات القضائية والقانونية المعنية، وإيجاد الآلية المناسبة لها.
تبعاً لذلك كتبت نجم الى المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، أمس، تقترح تدابير وإجراءات لتخفيف الاكتظاظ في أماكن التوقيف، والحد من انتشار فيروس كورونا، “مع تأمين حسن سير العدالة في القضاء الجزائي».
من أبرز ما اقترحته:
– حصر الاحتجاز بحالات الضرورة القصوى وفقاً لسلم تصنيف الجرائم بين أساسية تمسّ النظام العام توجب الاحتجاز، وأخرى لا ترقى الى هذه المرتبة ولا تستتبع تشدّداً في التوقيف.
– التأكيد على الضمانات الممنوحة للمحتجزين.
– استبدال حالات المثول أو الإحضار بالتواصل الالكتروني السمعي – البصري ما أمكن، عبر قسم المعلوماتية التابع لوزارة العدل بتجهيز أمكنة يتناوب قضاة التحقيق على إجراء جلساتهم فيها في هذه الفترة الاستثنائية.
غير أن حجب الاهتمام بالتشكيلات القضائية موقّتاً، لم يعطّل تماماً الصعوبات الناشئة في طريقها. أعاد مجلس القضاء الأعلى في 16 آذار إصراره عليها وفق الصيغة التي كان قد اقترحها في 5 آذار، وقرر في اجتماعه الأخير مطلع هذا الأسبوع التمسك بها رغم تحفظات الوزيرة، وصوّت عليها بغالبية سبعة من أعضائه العشرة. يُرجع هذا الإصرار المشكلة الى أصلها الذي لم يبدأ مع الوزيرة فحسب، بل أيضاً مع رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يرفض توقيع مرسوم التشكيلات القضائية ما لم يصر الى “تصحيحها». موقف لا يشاركه إياه مجلس القضاء الأعلى، بينما لا تبدو وزيرة العدل بعيدة من وجهة نظر الرئيس استناداً الى تشكيلات وجدت فيها “شوائب” تناقض بعض المعايير التي توافقت ومجلس القضاء على وضعها، قبل خوضه في التحضير للتشكيلات.
استمرار الخلاف على التشكيلات المقترحة يضع في طريق الأفرقاء المعنيين أكثر من ملاحظة:
1 – إن الفقرة (أ) في المادة الخامسة من المرسوم الاشتراعي 150 الصادر في 16 أيلول 1983، تشير الى أن إصرار مجلس القضاء الأعلى بالنصاب الموصوف على التشكيلات وفق الصيغة التي يقترحها، يجعل قراره “نهائياً وملزماً». مفاد ذلك أن للمجلس “صلاحية مقيِّدة” للسلطات تلزمها الموافقة على قراره. بيد أن المرسوم الاشتراعي نفسه، في المادة ذاتها، يؤكد صدور التشكيلات بمرسوم بناءً على اقتراح وزير العدل. عنى ذلك موافقة الوزير المختص وتوقيعه على المرسوم. الأمر الذي يؤول حتماً الى تعليق صدور التشكيلات، ما لم تقترن بتوقيع الوزير ومن بعد رئيس الجمهورية الذي لا يقل تحفّظاً عن بعض ما ورد في التشكيلات. لم يتردد في القول بأنه لن يوقعها على نحو ما هي عليه.
كورونا يبلبل عمل المحاكم والتحقيقات والتوقيفات
للوزير بذلك كما للرئيس قبله – وكلاهما ليسا صندوقي بريد – حق الاعتراض على التشكيلات، مقدار ما لمجلس القضاء الأعلى حق الإصرار عليها.
2 – البعض المتعاطف مع وجهة نظر مجلس القضاء الأعلى، يعتقد بأن توقيع الرئيس والوزير شكليان ما دامت “الصلاحية المقيِّدة” أُعطيت الى مجلس القضاء، وتوخّت إظهار قدر معين من استقلالية السلطة القضائية عن سواها من السلطات الموازية. بإزاء هذا الرأي، ثمة آخر مناقض، يتحدث عن صلاحية دستورية ليست أقل أهمية تمنع صدور مرسوم عادي لم يوقعه رئيس الدولة. لا يصح إذّاك إهمال هذه الصلاحية أو تجاوزها. وهي ذات قواعد مختلفة عما تورده المادة 56 في الدستور بتقييدها الرئيس بمهل ملزمة لتوقيع المراسيم والقرارات الصادرة عن مجلس الوزراء. إذا لم يحترم المهل هذه تصدر المراسيم بلا إمضائه. ليست الحال نفسها مع المراسيم العادية. ما يعني أن توقيع الرئيس، كما الوزير، مقترن بالضرورة بموافقته على ما سيمهره. سبق لعون أن امتنع عن توقيع مراسيم تشكيلات ومناقلات عسكرية، الى أن صار الى الأخذ بوجهة نظره.
3 – ثمة وجهة نظر تقول باجتهاد إداري مستقر يقضي بقبول القاضي، بداعي “المصلحة العامة»، بعدم إصدار السلطات الإدارية قرارات من شأنها الإضرار بالمصلحة العامة تلك. عدم الإصدار هذا يقتضي أن يقترن بمراقبة القضاء – الرقيب على كل الإعمال الإدارية – بغية التحقق من عدم تجاوز حدّ السلطة ومن وجوب “المصلحة العامة». مخرج كهذا يتيح تجميد التشكيلات في الوقت الحاضر تفادياً لاشتباك الصلاحيات بين المجلس والوزيرة، ويفسح في المجال أمام تعاونهما على تصويب ما يقتضي بعيداً من التشبّث بوجهات نظر متعارضة. بيد أنه ينطوي على سلبية بالغة، مفادها أنه يتيح إبقاء القديم على قدمه، بكل ما يعنيه من محاصصة وتقاسم وتوزّع مناصب القضاء. على الأصح ذلك ما تتوخاه القوى السياسية غير المتحمّسة لتشكيلات مجلس القضاء الأعلى.