لا ندري هل كان القاضي فادي صوَّان مدركاً ان ادعاءه على حسان دياب بتهمة الإهمال في جريمة المرفأ سيثير حساسية قيادات “أهل السنة” الذين كادوا امس ان يعلنوا “الجهاد” نصرةً لمَن وصفته أكثريتهم منذ وصوله الى السراي بأنه “دمية” و”باشكاتب” عند ولي أمره “حزب الله”؟.
ولا نعلم هل تصرف صوَّان بوحي من كيد عوني سياسي، ام انه استند الى الملف وتطور التحقيقات، او انه “كبَّر الحجر” تمهيداً للتنحي؟، لكنه بالتأكيد افتقد الى بديهيات، فلم يدرك ان اتهام رئيس حكومة في عهد رئيس مُستفِز أصلاً لـ”المكوّن السني” لا يعمق أزمة التنازع على تشكيل الحكومة فحسب، بل قد ينسف التحقيق في جريمة تدمير بيروت ومعه أي تحقيق بالفساد، مثلما قد يفتح الباب على انهيارات تنعش مشاريع “المكونات” وأطماعها ومخاوفها.
نشجع المحقق العدلي على عدم التأثر بضغوط الطبقة السياسية الساقطة حزبيةً أو نيابيةً، ولا بحصانات المناصب أو بخطوط حمر ترسمها بطريركية او دار افتاء. ولْيتَّهم من يراه مرتكباً او مخطئاً، لكن باعتقادنا ان رئيس الجمهورية والحكومة متساويان في الاهمال، إذ عَلِما بخطورة العنبر 12 وتصرَّفا ببلادة توجب استقالة كليهما مرفقة باعتذار واستغفار. أما جوهر التحقيق فهو- للمفارقة وسخرية القدر- ما طالب به “حزب الله” امس في معرض دفاعه عن دياب والوزراء الثلاثة “الممانعين”، وهو الوصول الى صاحب النيترات الحقيقي وكيفية التفجير. ونضيف: تحديد المسؤوليات المباشرة التي يتحملها مَن يظهره ولا يخشى اظهاره التحقيق.
ومع تفهُّم اعلان “النفير” للدفاع عن رئاسة الحكومة ضد افتئات عون المتكرر على صلاحياتها وعلى دستور الطائف، فإن تقاطع “السنة” مع سائر قوى المنظومة الحاكمة على رفض قرار القاضي صوان مسيءٌ الى مفهوم الدولة والقانون لأنه يقصم ظهر التحقيق العدلي بإعطائه مبرراً أكيداً للوزراء المدعى عليهم لعدم الامتثال، مع ما يستتبع ذلك من ضرب مؤسسة القضاء التي نراهن عليها مدخلاً للاصلاح في ظل الاستعصاء السياسي. وإذ يتضح ان الرئيس المكلف سدّد لغريمه في بعبدا “ضربة فنية” بزيارته التضامنية للسراي لشد العصب المذهبي، فإن عليه الانتباه الى الجانب الأخلاقي في خطر تضييع حق الضحايا وكل لبناني سيادي رفض ردم الحفرة إثر اغتيال والده الشهيد، وهو دَينٌ في ذمته الى يوم الدين.
كان أفضل بالتأكيد لو شمل القاضي صوَّان رئيس الجمهورية بالإدعاء وترك استكمال المهمة لآليات محاكمة الرؤساء، غير ان الاستنفار الشامل لتقويض أي جهد قضائي ضد الفساد سبَق عملَ المحقق العدلي، ويتجاوز مطالب المساواة والتوازي في فتح الملفات الى الرغبة في عدم فتح مغاور وزارات السرقة، وخصوصاً مباشرة التحقيق الجنائي في مصرف لبنان لأنه بؤرة أسرار جرائم أهل المنظومة.
يتأكد اللبنانيون اليوم مجدداً كم ان مكونات السلطة شديدة البأس وقادرة على الاستثمار في الأخطاء والتذرع بالأسباب لتُجنب نفسها كأس المساءلة. ولا نريد تصديق ان الهجوم الصاعق من كل الأطراف على القاضي صوَّان هو لحظة استحقاق جمعت “أهل الباطل” ضد فكرة أي تحقيق من الأساس وحصَّنت رئاسة الجمهورية وصهرها ازاء المحاسبة سواء في جريمة 4 آب او في هدر الكهرباء.
لا يزال القاضي صوان قادراً على التصحيح. ولن يكون ذلك بالتراجع بل بالسير الى أمام والادعاء على اي مرتكب مهما علا شأنه وطالت يده وهدد بالويل والثبور ولوَّح بالتوتير الطائفي. انها معركة القضاء بالتحالف مع الحق وأكثرية اللبنانيين لإنقاذ البلاد المكلومة من براثن المجرمين والفاسدين. بدأت ويجب أن تنتهي لمصلحة قيامة دولة القانون.
نريد المرتكبين وراء القضبان رؤساء وقادة أمن وقضاة وموظفين.
هذه المرّة: “كلّن يعني كلّن” فعلاً.