ساد الإعتقاد الغامض خلال العقود الماضية، بأنّ لا موارد كبيرة للطاقة بالنسبة لمعظم الدول الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسّط، لكنّ المفاجئ أنّ الشركات البترولية الكبرى أيقظت أنظمة بعض الدول وربّما شعوبها على مناخاتٍ طاغية وجاذبة للبحث السريع والحفر في حقول البترول والغاز لاستخراج الاحتياطات الضخمة في هذه المنطقة من العالم.
المؤشّر الجدّي الذي ربّما أشاع هذا المناخ، كان التقرير الصادر عن هيئة المسح الجيويولوجي الأميركية في الـ2010 ، مقدّراً احتياطات الغاز في الحوض الشرقي للمتوسّط بـ122 تريليون قدم مكعب، إلى مليار و700 مليون برميل من النفط. طبعاً يمكن ربط هذا التاريخ المفصلي 2010 بالكثير من الأمور المفصليّة العسكريّة والسياسية التي تتعلّق لا بمستقبل التحوّلات المتّصلة بمستقبل الأنظمة والشعوب العربيّة على ضوء بدايات ذبول «زهور الياسمين» في الدول التي عانت وما زالت من تداعيات «الربيع العربي» مع الإحتفاظ المتجدّد بتهديدات «داعش»، بل بما هو على صلة قويّة بمستقبل العلاقات بين الولايات المتّحدة الأميركية والصين وروسيا المتّصلة كلّها بنسيج من العلاقات غير المستقرّة بين الدول الإقليمية والإسلاميّة وصولاً إلى مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي وملفّات التطبيع وغيرها من الملفّات المزمنة التعقّيد.
يحمل هذا التاريخ 2010، مؤشّرات للتحليل في نقاطٍ خمس:
1- للعلم، بأنّ هيئة المسح الجيولوجي المذكورة، رأت النور في أميركا منذ 142 سنة، أي في العام 1879، وهي هيئة تابعة لوزارة الداخليّة الأميركيّة وشعارها المرفوع هو: «العلم من أجل تغيير العالم». يمكنني هنا إيراد رواية عن سياسي لبنانيّ مخضرم قال أنّه سأل مسؤولاً أميركيّاً بقوله: لماذا هذا الاهتمام الكبير بلبنان وهو بلد غير مدرج بين دول المنطقة النفطيّة والغازية؟ وجاءه الجواب: أنتم تعومون على أضخم ثروة من الغاز أوّلاً والنفط ثانيّاً، عليكم الإنتظار.
2- للتنبه، بأنّ النفط والغاز لعبا أدواراً محوريّة في رسم سياسات العالم وإقتصاده منذ القرن الماضي. ويقدّر بأنّ تأثيرهما سيمتدّ مستقبلاً إلى حدود 43 سنة قادمة بالنسبة للنفط و157 سنة بالنسبة للغاز و407 سنوات للفحم. السبب عائد إلى استراتيجيّات علميّة تفرضها التحوّلات الكوكبيّة في دول العالم نحو الطاقات البديلة النظيفة والتي تتجاوز 15% حاليا، وبشكلٍ مطرد، مجمل استعمال الطاقات التقليدية. إذن، صار العالم مسكوناً، بالحاجة البشرية الملحّة لاستخراج المواد الأولية التي ستفقد قيمتها بحدود الـ2050 مستبدلةً بالطاقات البديلة حفاظاً على مستقبل التوازن الكوني.
3- أدرك الرأي العام اللبناني الفقير مؤخّراً عبر الإعلام، أنّ الإهتمام الدولي بثروة لبنان ليس وليد اليوم. فمنذ العام 1974، كان لويس أبو شرف، وزيراً للنفط وفاجأته شركات عالمية للبترول بطلبات الحصول على تراخيص للتنقيب في القسم الشمالي من المياه اللبنانية شمال العاصمة بيروت. منح يومها تراخيص لبعضها لقاء ١٥ مليون ليرة لكل شركة، لكنّ اندلاع الحروب في الـ1975 أقفل الملفّ نحو الحروب الأهلية التي اندلعت ويحتفل اللبنانيون بذكراها، ليعاد فتحه بعد دستور إتّفاق الطائف في الـ1989. توالت الحكومات وتشابكت الطوائف والأحزاب وتقاطعت المصالح الشخصية بالوطنية في أسرار النفط والغاز، بما أرعب اللبنانيين وجنح بهم مجدّداً للتبشير بتجدّد الحروب الأهليّة. كيف؟
4- تحوّل ملّف النفط والغاز خشبة خلاص اللبنانيين من سياسة «تقسيم جلد الدب قبل اصطياده» في دولةٍ «جهنّمية» تترنّح على وقع مبادرات وزيارات وصراعات إقليمية، بينما سياسيوها منهمكون بالفساد وتكديس الثروات في ظلّ حكومة تصريف أعمال سجينة ومقعدة وحكومةٍ جديدة مستحيلة. وحفاظاً على ثروات لبنان النفطيّة، شهد لبنان ضغوطاً شعبيّة للخروج من «المتاهة» الرسميّة الملتبسة في ما خصّ المرسوم 6433 (1/9/2011) الذي سبق أن تبلّغته الأمم المتّحدة، وهو يحرم لبنان 1430 كلم2 من ثرواته البحرية أي ما يعادل خمس مساحة لبنان لهذا صِيغَ مرسوم معدّل جديد يؤكّد حقّ لبنان بالمساحة المذكورة وبالنقطة الحدودية 29 بدلاً من 23، إلاّ أنّ رئيس الجمهورية فاجأ اللبنانيين بإرجاع المرسوم إلى مجلس الوزراء المستقيل، مع أنّه صدر أكثر من مئتي مرسوم وفقاً للآلية المقترحة.
5- تتعدّد القراءات بعدما استقبل لبنان دايفيد هيل (14/4/2021) وكيل وزارة الخارجية الأميركية في زيارة وداعية تزامنت مع شهر رمضان المبارك، وذكرى حرب 13 نيسان 1975 لكنها تجاوزت عنوانها إلى محور الغاز والنفط والحدود التي رفضتها «إسرائيل» فتجمّدت مفاوضات الناقورة منذ (11/10/2020)، ويبقى لبنان طائرة تجوب العالم بحثاً عن حلول بعدما فقدت قدرتها على الطيران في فضاءات ملبّدة داخليّاً وخارجيّاً وعلينا الإنتظار.