IMLebanon

الولاية القضائيّة العدليّة الشاملة لملاحقة رئيس مجلس الوزراء والوزراء والتحقيق معهم ومحاكمتهم

 

هل يمكن ملاحقة رئيس مجلس الوزراء والوزراء والتحقيق معهم ومحاكمتهم لدى القضاء العدلي، وتحديداً أمام المجلس العدلي والمحقق لديه، بعد أن أحال مجلس الوزراء جريمة انفجار المرفأ على المجلس العدلي بالمرسوم رقم 6815 تاريخ 12 آب 2020، وبادرت وزيرة العدل إلى تعيين محقق عدلي عملاً بالنصوص المرعيّة ؟

 

استمع المحقق العدلي إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال بصفة شاهد، وذلك بعد أن انتقل وكاتبه إلى مقرّ المستمع إليه عملاً بالمادة 85 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، علماً أن الاستماع إلى الشهود هو جزء من التحقيق وتكتنفه بالتالي السريّة التامة حتى صدور القرار النهائي عن المحقق العدلي بنتيجة التحقيق، كما ادّعى على وزراء سابقين، ثلاثة منهم نواب حاليون.

 

كلّ هذا أثار جدلاً، جلّه سياسي ومتمظهر بعريضة نيابيّة واقتراحات قوانين، حيث لا يسعنا إلا قول الحقّ من منطلقين اثنين :

 

 

المنطلق الأوّل: الولاية الشاملة للقضاء العدلي العادي:

 

إنّ ملاحقة رئيس مجلس الوزراء والوزراء والتحقيق معهم ومحاكمتهم هي إجراءات لا تدخل حصريّاً في اختصاص مجلس النواب والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، على ما يتبيّن صراحةً من المادتين 70 و 71 من الدستور والمادة 18 من القانون رقم 13 تاريخ 18/8/1990 (أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى المنصوص عنه في المادة 80 من الدستور)، ذلك أنّ مبادرة مجلس النواب إلى اتهام رئيس مجلس الوزراء والوزراء بالخيانة العظمى أو الإخلال بالواجبات المترتبة عليهم إنما تقع في دائرة الاختصاص الجوازي وليس الوجوبي، وكذلك بالتالي محاكمتهم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء على عكس ما هي الحال بالنسبة لاتهام رئيس الجمهوريّة ومحاكمته وفقاً لأحكام المادة 60 من الدستور التي تنصّ أنّ تبعة الرئيس في ما يختصّ بالجرائم العاديّة إنما تخضع للقوانين العامة، في حين أن لا تبعة عليه وظيفيّاً إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى، ولا يمكن اتهامه بالجرائم العامة أو الوظيفيّة تلك “إلا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبيّة ثلثيّ مجموع أعضائه ويحاكم أمام المجلس الأعلى …”. إنّ مردّ هذه الخصوصيّة الدستوريّة هو فرادة وظيفة الرئيس (رئاسة الدولة) ورمزيّة موقعه (وحدة الوطن) وقسمه دون سواه اليمين الدستوريّة فور انتخابه من مجلس النواب، السلطة الأكثر التصاقاً بالإرادة الشعبيّة، فيُتهم منها ويُحاكم حصريّاً لدى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. إلا أنّ كلّ ذلك لم يحل دون وضع الرئيس نفسه بتصرّف القاضي المختصّ، وفقاً لسلطان تقديره، لسماع إفادته في الجريمة المحالة على المجلس العدلي والتي هزّت الضمير المجتمعي والعالمي.

 

إضافةً إلى ما سبق لجهة الاختصاص الجوازي لمجلس النواب والمجلس الأعلى، يبقى أنّ المادة 70 من الدستور تنصّ على أنّ لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء في حال ارتكابهم الخيانة العظمى أو إخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، ولا تشمل هذه المادة الجرم الجنائي الذي قد تتم بموجبه ملاحقة الوزراء السابقين (سواء كانوا نواباً أم لا)، الذي يخرج عن دائرة اختصاص مجلس النواب اتهاماً، والمجلس الأعلى محاكمةً.

 

إنّ الولاية الشاملة للقضاء العدلي بملاحقة رئيس مجلس الوزراء والوزراء لارتكابهم أفعالاً جرميّة في معرض ممارستهم مهماتهم أو خارجها، والتحقيق معهم ومحاكمتهم، لا يحول دونها أيّ حصانات، لا ينصّ عليها الدستور أصلاً، بحيث لا يجوز اعتبار أنّ الأصل هو أن تتم الملاحقة من مجلس النواب، والاستثناء من القضاء العدلي المختصّ، وأن تتم المحاكمة لدى المجلس الأعلى وليس أمام القضاء العدلي المختصّ.

 

إلا أنّ الاجتهاد القضائي اللبناني لم يستقرّ على تفسير واحد للإخلال بالموجبات الوظيفيّة، إذ في حين بادر بعضه إلى ملاحقة الوزراء ومحاكمتهم قضاءً، امتنع اجتهاد آخر عن محاكمة وزير عن أفعال جرميّة ارتكبها في معرض ممارسة مهامه وأحاله بالاختصاص إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وقد بادرت الهيئة العامة لمحكمة التمييز إلى التفريق بين الموجبات المترتبة على رئيس مجلس الوزراء والوزراء المتصلة مباشرةً بمهامهم، وبين الأفعال الجرميّة التي يرتكبها رئيس مجلس الوزراء والوزراء في معرض ممارسة هذه المهام، وسواها من الجرائم، ما أضاف إلى الغموض والتبعثر عاملاً آخراً يتعلّق بالتوصيف الجرمي.

 

أما الولاية الشاملة للقضاء العدلي العادي في الملاحقة والمحاكمة، فهي ترتكز على الحجج الآتية :

 

1 – إنّ مبدأ المساواة بين اللبنانيين أمام القانون من دون تمايز أو تفضيل في ما بينهم هو من المبادئ العامة الدستوريّة النصيّة، التي لا يمكن الخروج عنها إلا بموجب نصّ دستوري خاص وصريح، على غرار المادة 60 من الدستور، ويلاقيه ويوازيه مبدأ عدم الإفلات من الملاحقة والعقاب قضاءً.

 

2 – إنّ المساءلة والمحاسبة القضائيّة هما من أسس نظامنا الديمقراطي البرلماني، لا سيّما في ضوء مبدأ فصل السلطات وتعاونها وتوازنها، والولاية القضائيّة إنما يخصّها الدستور، في مادته العشرين، بالمحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها بموجب قانون يحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة، على أن يستقلّ القضاة في إجراء وظيفتهم وعلى أن تصدر القرارات والأحكام من قبل كلّ المحاكم وتنفذ باسم الشعب اللبناني. هذا ما يفسّر، على الأقلّ، أن يتمّ التحقيق مع القضاة المشتبه بهم ومحاكمتهم عند الاقتضاء وفقاً لأصول خاصة معمول بها لدى القضاء نفسه، حيث لا حصانة للقضاة تمنع ملاحقتهم جزائيّاً، تلك الملاحقة غير المعلّقة على أذونات مسبقة.

 

3 – لم ينصّ الدستور على أيّ حصانة لرئيس مجلس الوزراء والوزراء تحول دون الملاحقة والمحاكمة أمام القضاء العدلي المختصّ، وأنّ أيّ تبرير بأنّ للنواب الوزراء حصانة من حيث أنّهم نواب تحول دون ملاحقتهم كوزراء عملاً بنصّ المادتين 39 و 40 من الدستور، إنما هو تبرير لا يقع صحيحاً في موقعه القانوني، ذلك أنّ المادة 39 من الدستور تحظّر إقامة أيّ دعوى جزائيّة على أيّ نائب بسبب الآراء والأفكار التي يبديها خلال فترة نيابته، وهي حصانة لا تنسحب على الأفعال الجرميّة التي يرتكبها النائب، في حين أنّ المادة 40 من الدستور تحظّر اتخاذ إجراءات جزائيّة ضدّ أيّ نائب أو إلقاء القبض عليه أثناء دورات انعقاد مجلس النواب في حال اقترف جرماً جزائيّاً، إلا بإذن المجلس، ما خلا حالة الجرم المشهود، ما يعني أنّ هذه الحصانة غير متوافرة خارج الدورات ولا شيء يحول دون ملاحقة النائب المرتكب، على أن تحصل الملاحقة خارج عقود انعقاد مجلس النواب.

 

أما المادة 89 من النظام الداخلي لمجلس النواب والتي تنصّ صراحةً على أنّ مبدأ الحصانة النيابيّة إنما يتعلّق بالانتظام العام، فلا يستقيم إعمالها بما يتناقض وأحكام الدستور.

 

من المفيد في هذا السياق متابعة إجراءات ملاحقة نائب يتمّ التحقيق معه بعد تهجّمه علناً على نائب عام في عقر دائرته، وذلك بعد أن ردّت محكمة التمييز الجزائيّة بتاريخ 30/7/2020 طلب نقض القرار الصادر عن الهيئة الاتهاميّة في بيروت الذي خلص إلى تصديق القرار الصادر عن قاضي التحقيق في بيروت بردّ الدفوع التي أدلى بها المدعى عليه النائب المذكور ومتابعة التحقيقات.

 

هذا وقد سبق للنائب العام التمييزي القاضي حاتم ماضي أن راسل سنة 2013 وزير العدل في حينه النقيب شكيب قرطباوي طالباً منه إحالة طلب ملاحقة أحد النواب (النائب السابق بطرس حرب) إلى مجلس النواب للاطلاع وإجراء المقتضى لجهة رفع الحصانة عنه تمهيداً لملاحقته جزائيّاً بسبب شكره، في تصريح صحافي ومتلفز أدلى به، رئيس الجمهوريّة بالتدخّل لمساعدته في حسم موضوع قضائي يخصّه، كما اتهامه بعض الهيئات القضائيّة بأنّها كانت متواطئة مع من يتهمه بمحاولة قتله، حيث اعتبر النائب العام التمييزي أنّ في ذلك القول إساءة متعمّدة إلى رئيس الجمهوريّة ومقامه بتصويره منحازاً إلى النائب المذكور، فضلاً عن إهانة القضاء وازدرائه باعتباره متواطئاً مع متهم على حساب العدالة، في حين “أنّ الحصانة النيابيّة إنما وجدت لتمكين النائب من ممارسة وكالته عن الأمّة التي يمثّلها بحريّة، وأنّها تسقط حكماً عندما ينحرف هذا النائب في قوله أو فعله عن هذا الهدف ابتغاءً لمصلحة شخصيّة أو فرديّة ضيّقة”.

 

هذا وإنّ مرور الزمن المسقط للجرم والعقوبة لا يجب أن يكون عاملاً من عوامل الإفلات من العقاب، لا سيّما في حال اكتشاف الارتكاب بعد زمن من حصوله.

 

4 – إنّ المادة 60 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة تتيح لقاضي التحقيق أن يطلب الاستماع إلى النواب والوزراء للإدلاء بإفاداتهم على سبيل المعلومات، حتى إن توافرت خلال التحقيق أدلّة على ارتكاب أيّ منهم جرماً متلازماً مع الفعل المدعى به، حوّل قاضي التحقيق أيّاً من هؤلاء المستمع إليهم إلى مدعى عليه. أما إذا كان الجرم غير متلازم، فيحيل قاضي التحقيق الأوراق إلى النائب العام للنظر بالادّعاء والإحالة إلى المرجع المختصّ. هذا هو النصّ الوضعي الذي أتى على إطلاقه، والذي يمكن الاستئناس به في معرض عمل المحقق العدلي.

 

5 – تنصّ المادة 362 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة أنّ “للمحقق العدلي أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق من دون طلب من النيابة العامة…»، ما يعني أنّه المعني بطلب الإذن بالملاحقة في القضايا المحالة إلى المجلس العدلي.

 

6 – لا يمكن إغفال ما ورد في المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة لجهة أنّه “… في جميع الحالات التي تقتضي فيها الملاحقة الجزائيّة ترخيصاً أو موافقة من مرجع غير قضائي وفي حال الخلاف بين النيابة الاستئنافيّة أو النيابة العامة الماليّة أو مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة، يكون للنائب العام لدى محكمة التمييز، خلافاً لأيّ نصّ عام أو خاص، أمر البتّ نهائيّاً في هذا الموضوع”.

 

إنّ المرجع غير القضائي، وقد وردت العبارة على إطلاقها، قد يكون مجلس النواب أو المجلس الأعلى للدفاع أو رئيس مجلس الوزراء أو الوزير المختصّ … ما يعني أنّ مرجعيّة الحسم تبقى لدى القضاء العدلي الجزائي.

 

7 – تنصّ المادة 42 من القانون رقم 13 تاريخ 18/8/1990 (أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى) على أنّ المجلس الأعلى، باستثناء خرق الدستور والخيانة العظمى والإخلال بالموجبات المترتبة على رئيس الحكومة والوزير، إنما يكون مقيّداً بالقانون في وصف الجنايات والجنح وفي العقوبات الممكن فرضها، كما يحقّ له تعديل الوصف القانوني الوارد في قرار الاتهام الصادر عن مجلس النواب. إنّ هذا الاستثناء، بحدّ ذاته، إنما يقع في خانة الاستنسابيّة طالما أنّه يترك لمجلس النواب استنساب التوصيف والعقوبة، ما يناهض كليّاً المبدأ ذا القيمة الدستوريّة والمعتمد في القوانين الجزائيّة بأن “لا جرماً ولا عقوبة من دون نصّ»، في حين أنّ القضاء العدلي، على ما أسلفنا، هو الضامن لإعمال هذا المبدأ، كما مبادئ أخرى لا تقلّ أهميّة عنه كالمساواة وعدم إفلات المرتكب من العقاب.

 

8 – بالمقارنة، وللدلالة على الولاية القضائيّة الشاملة للقضاء العدلي عامة عند وجود حصانات وضرورة الاستحصال على أذونات للملاحقة (وبالتالي المحاكمة)، نشير إلى أنّ المادة 61 من قانون الموظفين تنصّ أنّ على النيابة العامة أن تتقدّم من المرجع المختصّ بطلب إذن لملاحقة الموظفين جزائيّاً عن جرم ناشئ عن الوظيفة، إذ لا يجوز قانوناً ملاحقته من دون موافقة المرجع الذي ينتمي إليه، والذي عليه أن يبتّ الطلب بقرار معلّل خلال مهلة أقصاها 15 يوم عمل ابتداءً من تاريخ ورود الطلب إليه، بحيث يعتبر عدم البتّ خلال هذه المهلة المحددة موافقة ضمنيّة على طلب الملاحقة. وفي حال رفض المرجع المختصّ طلب النيابة العامة بإعطاء الإذن بالملاحقة (بقرار معلل/م 61 أعلاه)، جاز للنيابة العامة، في مهلة 15 يوماً من تبلّغها قرار الرفض، عرض الأمر على النائب العام لدى محكمة التمييز لبتّه بقرار معلّل أيضاً يبلّغ إلى المعنيين، ضمن مهلة مماثلة، حتى إن انقضت هذه المهلة من دون البتّ، اعتبرت الموافقة على الملاحقة ضمنيّة.

 

المنطلق الثاني: خصوصيّة المجلس العدلي وصلاحيّأت المحقق لديه:

 

أوّلاً: إنّ المجلس العدلي (المواد 355 وما يليها من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة) هو أعلى هيئة قضائيّة جنائيّة، وهو يتألف من الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز رئيساً ومن أربعة قضاة من محكمة التمييز أعضاء يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بأكثريّة الثلثين بناءً على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى. يعيّن في ذات المرسوم قاض إضافي أو أكثر ليحلّ محلّ الأصيل في حال وفاته أو تنحيته أو ردّه أو انتهاء خدماته، ما يفيد أنّه يمكن ردّ أعضاء المجلس العدلي من جهة، وإنّ هذا المجلس هو هيئة غير قابلة للتعطيل، من جهة أخرى. أما اذا تعذّر على الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز أن يرئس هيئة المجلس العدلي لأيّ سبب كان، فيتولى رئاسته العضو المعيّن الأعلى رتبة، وذلك حتى زوال أسباب التعذّر أو تعيين رئيس أوّل جديد لمحكمة التمييز ولمجلس القضاء الأعلى بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بأكثريّة الثلثين الموصوفة بناءً على اقتراح وزير العدل.

 

يتولى النيابة العامة لدى المجلس العدلي النائب العام لدى محكمة التمييز أو أحد معاونيه، فيما يقوم بوظيفة قاضي التحقيق أحد القضاة الذي يعيّنه وزير العدل بقرار منه بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى ويسمّى “المحقق العدلي” وتنتهي ولايته بانتهاء القضيّة التي تمّ تعيينه من أجلها.

 

ثانياً : ينظر المجلس العدلي في الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي والداخلي والجرائم الواقعة على السلامة العامة والجرائم المنصوص عنها في قانون 11/11/1958، وهي الجرائم التي تتعلّق بالفتنة المسلّحة وإثارة الحرب الأهليّة والاقتتال الطائفي والقيام بالأعمال الإرهابيّة عن طريق الفعل أو الحضّ أو التسهيل أو المؤامرة، وهي جرائم خارجة عن دائرة اختصاص مجلس النواب اتهاماً والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء للقيام بهذه المهمة المحصور الاتهام فيها وبالتالي المحاكمة بجرمي الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات الوظيفيّة على ما أسلفنا.

 

ثالثاً : تنتفي أيّ صلاحيّة للقضاء العسكري أو العادي عند إحالة الملف إلى المجلس العدلي الذي تشمل ولايته القضائيّة المدنيين والعسكريين على السواء انفاذاً لمرسوم الإحالة، وتحال الدعاوى موضوع مرسوم الإحالة والتي هي قيد النظر أمام القضاءين العسكري والعادي إلى المجلس العدلي.

 

رابعاً : إنّ النائب العام التمييزي يكتفي بالادّعاء لدى المحقق العدلي بالجريمة ويحيل إليه ملف التحقيقات، فيضع المحقق العدلي يده على الملف بصورة موضوعيّة ويصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق من دون أيّ طلب من النيابة العامة، وهو يستجوب أيّ مسهم في الجريمة يظهره التحقيق بصفة مدعى عليه ولو لم يرد اسمه في عداد من ادّعت عليهم النيابة العامة. إنّ قرارات المحقق العدلي لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة. بعد اكتمال التحقيقات تبدي النيابة العامة التمييزيّة المطالعة في الأساس، إلا أنّ المحقق العدلي هو الذي يقرر، بنتيجة تدقيقه بالتحقيقات وأوراق الدعوى، إما منع المحاكمة عن المدعى عليه وإما اتهامه وإحالته إلى المجلس العدلي، وقراراته هذه غير قابلة للطعن أيضاً. وفي هذا السياق، تطبّق المادة 60 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة التي أشرنا إليها في القسم الأوّل من هذا المقال.

 

خامساً: لكلّ متضرر أن يقيم دعواه الشخصيّة لدى المجلس العدلي تبعاً للدعوى العامة، بحيث يتاح له الاطلاع على كامل الملف.

 

سادسا : للمجلس العدلي، بناءً على طلب النيابة العامة التمييزيّة أو عفواً، أن يجري تحقيقاً إضافيّاً في الدعوى بكامل هيئته أو بواسطة من ينتدبه من أعضائه لهذا الغرض، ما يتيح تناول تشعّبات الملف.

 

سابعاً : تجري المحاكمة لدى المجلس العدلي بصورة وجاهيّة أو غيابيّة، وفقاً للأصول المتبعة لدى محكمة الجنايات، ما يعني أنّه متى وضع المجلس العدلي يده على القضيّة، بمقتضى قرار المحقق العدلي، أصبحت صلاحيته حتميّة ولا يعود له أن يرفع يده عن القضيّة، بل يجب عليه أن يفصل بها حكماً وحتماً ولا مهلة قانونيّة تقيّده، سوى المهل المعقولة من منطلق أنّ العدالة المتأخّرة كالعدالة المنتفية.

 

ثامناً : لا تقبل أحكام المجلس العدلي أيّ طرق من طرق المراجعة العاديّة وغير العاديّة، وهي تصدر بإجماع أعضاء الهيئة أو بالأكثريّة.

 

تاسعاً : تبقى مسألة مثارة فيما إذا كانت صلاحيّة المجلس العدلي مقيّدة بمرسوم الإحالة أم أنّ بإمكانه التفلّت منها. إنّ ثمة قراراً صدر عن المحقق العدلي بتاريخ 15/11/1994 في قضيّة المغدور الشيخ احمد عساف اعتبر بموجبه المحقق العدلي، خلافاً لمطالعة النائب العام العدلي بالأساس، أنّ مرسوم الإحالة إلى المجلس العدلي لا يقيّد صلاحيّة هذا المجلس، ذلك أنّ المحقق العدلي هو الذي يجعل من المجلس العدلي، عند الاتهام، قابضاً على اختصاصه القضائي. أما عندما تتخذ الحكومة قرار الإحالة، فإنما تمارس اختصاصاً قضائيّاً ناطه بها قانون أصول المحاكمات الجزائيّة. إلا أنّها تمارس أيضاً في الوقت ذاته اختصاصاً سياسيّاً بمجرّد اعتبارها فعلاً ما ماسّاً بأمن الدولة الخارجي أو الداخلي، فيضحي مرسوم الإحالة عملاً حكوميّاً غير قابل للطعن Acte de gouvernement.

 

عاشراً : إنّ مبدأ فصل السلطات وتعاونها وتوازنها، وهو مبدأ دستوري نصّي وارد في مقدّمة الدستور المستقاة حرفيّاً من “وثيقة الوفاق الوطني”، لا يمكن أن تستقيم في ظلّه ولاية قضائيّة تنافسيّة بين مجلس النواب والقضاء العدلي، بمجرّد أنّ الحكومة أحالت، كما سبق وأشرنا، جريمة ما على المجلس العدلي.

 

في الخلاصة،

 

إنّ المادة 70 من الدستور لا تحجب الولاية القضائيّة العدليّة الشاملة لملاحقة رئيس مجلس الوزراء والوزراء والتحقيق معهم ومحاكمتهم، سيّما في الجرائم المحالة من الحكومة على المجلس العدلي. هذا لا يعني بالمطلق أنّ صلاحيّة المجلس الأعلى لمحاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزراء هي صلاحيّة منتفية، ذلك أنّ ثمّة نصّاً دستوريّاً يولي المجلس الأعلى هذه الصلاحيّة في حالتين محددتين حصراً عند ملاحقة رئيس مجلس الوزراء والوزراء (الخيانة العظمى والإخلال بالموجبات الوظيفيّة)، والدستور يسمو سائر النصوص القانونيّة، إلا أنّه يبقى أن يحسم المشرّع أو الاجتهاد العدلي دائرة اختصاص كلّ من القضاء العدلي والمجلس الأعلى، وألا يكون المجلس الأعلى ملاذاً للإفلات من العقاب، في معرض تفسير الإخلال بالموجبات الوظيفيّة ليس إلا.

 

هكذا تتحدد المسؤوليّات الجرميّة ويلقى كلّ مسؤول عقابه عن جرمه وفقاً للقانون ولا يتحصّن بالدستور من لا يخصّه الدستور بالحصانة أو بآليّة وجوبيّة ومحددة للادّعاء والتحقيق والمحاكمة، فتتحقق العدالة التي يستكين إليها المتظلّمون جميعاً والشعب الذي تُلفظ الأحكام باسمه، حتى إن اقتضى الأمر تعديلاً دستوريّاً على سبيل الافتراض، توسّلناه.