IMLebanon

القضاء و«الأيادي البيضاء»  

 

 

لا أمل في إنقاذ لبنان من الفوضى والفساد والإستهتار بالشعب وحقوقه ومصالحه إلا بقضاء نزيه عادل شفّاف. وليكون كذلك يجب، بالضرورة، أن يكون مستقلّاً عن السياسة والسياسيين بكلّ ما للكلمة من معنى. ومن نافل القول أن نُردّد أنّ في لبنان قضاةً مهمّين عُلماء وفقهاء ومثقّفين وذوي أخلاق، ولكن تدخّل السياسة في الجسم القضائي هو المُعرقِل والحاجز دون تصدّي القضاء للفساد المتجذّر الذي باتَ، من أسفٍ، علامة لبنانية فارقة.

 

وفي تقديرنا أنّ الكلام كّله على الفساد ليس سوى همروجة لن تنتهي إلى نتيجة فاعِلة ما لم نتوصّل إلى جسم قضائي منيع. وهذا لا يأتِ مُصادفةً إنما يفترض سلسلة إجراءات قد يكون في طليعتها تحصين القضاة أمام المغريات المادية إنطلاقاً من تمكينهم من حقّهم في المرتّبات المالية التي توفّر لهم الإكتفاء الذاتي من دون التقليل من أهميّة المناعة الأخلاقية التي هي الأساس.

 

في بريطانيا بعض الغرف القضائية ليس للقاضي مرتّب ثابت فيها إنما يحصل على حاجته الشهرية، كل شهر على حدى وليس المبلغ ثابتاً، بما يتناسب مع تلك الحاجة فيأخذ من المصرف المختصّ ما يُريد بموجب العرف القائم منذ القرن التاسع. «لو طلبَ القاضي نجمةً من السماء لجئتهُ بها إذا كانت ضروريةً له» قالها رئيس وزراء بريطاني سابق.

 

ولعلّ قضاتنا، ولنا بينهم أصدقاء ورفاق مدرسة وجامعة أعزّاء، يقتدون بتجربة زملائهم في إيطاليا الذين إنتفضوا في العام 1992 تحت إسم وشعار «الأيادي البيضاء» يوم كانت إيطاليا قد سقطت في قبضة الفساد والمافيا اللذين شملا أهل السياسة والمال والإقتصاد والعسكر والأمن وحتى الجسم القضائي ذاته. يومها تجرّأ القاضي أنطونيو بياترو وأوقف القيادي البارز في الحزب الإشتراكي الحاكم ماريو كييزا واتّهمه بالعلاقة المشبوهة مع المافيا وتقاضي الرشوة.

 

تلك كانت الشرارة المقدّسة التي فتحت الباب أمام ثورة قضائية رائعة بعدما كسَر بياترو «التابوو» الذي كان لا يجرؤ أحد على «الدقّ» به، ما أدى بالفاسد كييزا إلى الإنتقام فسارع إلى كشف الغطاء عن أمثاله من الفاسدين في المجتمع الإيطالي كلّه مسمّياً إياهم بالأسماء، وبدأت سلسلة محاكمات تاريخية ردّت عليها المافيا باغتيال القاضيين فالكوني وبورسولينو اللذين كانا قد تقدّما كثيراً في كشف وإسقاط منظومة الفساد.

 

إنّ القاضي اللبناني يصدر الحكم بإسم الشعب، ونحن إذ نُطالبه بالإقتداء بزميله الإيطالي، فإننا نُطالب في الوقت ذاته بتحصينه في حقوقه المالية، لأننا واثقون أنّ لا وسيلة لمكافحة الفساد في وطننا إلا بثورة قضائية ناصعة كإنتفاضة «الأيادي البيضاء» في إيطاليا.