قد لا نفاجأ كثيراً إن بلع وزراء الحكومة الميقاتية ألسنتهم في باكورة جلساتها، فلم يستأذن أحدهم ليطرح من خارج جدول الأعمال سؤالاً بسيطاً عن “غزوة العدلية” التي علَّقت عمل القاضي البيطار. فكل وزير “شهادتو برقبتو” ولم يحظَ باللقب إلا بعدما اجتاز “معمودية الولاء” لدى “حزب الله” أو جبران.
يعنينا بالطبع – مع انه ليس “بيت القصيد” – أن ميقاتي “أول دخولو” لوَّث الزوايا بدل تدويرها، فشكَّلَ راضخاً لجنة تمثل أنزهَ تمثيل العصابةَ التي نهبت أموال اللبنانيين للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، وزيَّنها بـ”أرسين لوبن” المصرف المركزي.
لنا حساب مفتوح مع حكومة “معاً للإنقاذ”، لكننا نستعجل اليوم مساءلة أكثر المعنيين بأخطر تطور شهده لبنان مطلع الأسبوع، متمثِّلاً بالانقضاض على العدالة لضحايا تفجير 4 آب والمخاطرة بتدمير آخر أمل للبنانيين في دولة قانون، وربما في شراكة على المستوى الطائفي والوطني. والمعنيون، بعد القضاة المنخورين بالولاءات والمصالح، هم أصحاب الرأي، وعلى رأسهم نقابة المحامين، من غير ان نعفي نقابتي الصحافة والمحررين بالتحديد.
وإذ نبدأ بأنفسنا لا نستغرب انحياز نقابة الصحافة الى السلطة بأجنحتها المتنوعة، والدفاع المستميت عن أطراف في المنظومة تحت ستار مهاجمة أطراف تماثلها رداءة. كذلك لا نرى في موقف نقابة المحررين “المتوازن” إلا تنازلاً عن واجب الشهادة للحق والانحياز للضحايا. فالدبلوماسية تُترك لأهلها، فيما الأقلام الحرة مدعوة الى عدم دفن الرؤوس في الرمال والى تجاوز المسايرة للجهر بما يمليه الضمير. هكذا نفهم طبيعة المهنة وأهلها، وستتحول وسائل الإعلام حُكماً “وكالة وطنية” وأداة للسلطة والقمع والتمجيد بـ”السيد الرئيس” إن لم ترفع لواء الحرية وترفض مداهنة صاحب سلطة أو سلطان.
يبقى السؤال الأساس: أين نقيب المحامين الذي افتقدناه فما وجدناه “في الليلة الظلماء” حين انتصر أهل الباطل والنفاق مجمّدين عمل المحقق العدلي؟ النقيب ملحم خلف مطالبٌ بتصدُّر الموقف الحر والمسؤول قبل الآخرين. ذلك ان نقابته شكلت دوماً حصناً للحريات والتقاضي النزيه حتى في أحلك ايام الوصاية السورية، وشهدت مواقف لنقباء وأعضاء في النقابة تشرِّف تاريخ اللبنانيين. انتُخب من هذا المنطلق نقيباً لثورة 17 تشرين واحتفلنا به لحمل المشعل، ولا ننكر انه لم يتأخر في الدفاع عن المعتقلين ولم يتردد في التصدي لعدوان السلطة على حقوق المتظاهرين والمحتجين.
من حق اللبنانيين الذين راهنوا على خلَف كبداية للتغيير أن يطالبوه بالحضور الفعلي في هذا الوقت الذي يتعرض فيه التحقيق لتآمر حزبي مذهبي يرمي الى حماية المدعى عليهم ومَن وراءهم من المرتكبين، والى تضييع الجريمة بحيث تتحول حادثاً عارضاً لا يستدعي سوى التعويض من شركات التأمين.
نعلم ان ولاية النقيب خلف على وشك الانتهاء، لكننا نريد خاتمتها صالحة، خصوصاً بعد “إضراب مفتوح” كلَّف النقيب والنقابة الكثير لأنه أتى في غير محله ولا يلجأ اليه عموماً إلا السذَّج في السياسة والعمل النقابي.
نقابة المحامين ستبقى رأس الحربة في الدفاع عن الحريات واستقلال القضاء، فلا نريد لأخطاء النقيب ان تعيدها الى الوراء ولا ان تعطي صورة مشوشة عن ارادة التغيير التي تمثلت بانتخابه بعد 17 تشرين.
لبنان كله في خطر، هوية وكياناً، لكن طمس “جريمة النيترات” هو أعلى مراحل حكم “المنظومة” التي تتعمد إضاعة الحق والحقيقة وتستتبع القضاء. لذلك فإن أصحاب الرأي والمثقفين غير الملتحقين بالسلطة الفاسدة والمذهبية العمياء مطالبون بالبقاء في المرصاد.