كل حرب فريدة في بابها. والمنتصر يسعى دائما الى ابراز فرادتها واستثنائيتها في سياق عمله على استثمار النصر وتثبيت مواقعه كقوة دولية واقليمية وفي السلطة الداخلية في بلده ما يترافق مع ظهور منتفعين ومستفيدين يساهمون في تغيير منظومات القيم والثقافة في الجانب «المنتصر».
تمتد الأدلة على الرغبة في المبالغة في اهمية الانتصارات الحربية من الجداريات الفرعونية الى مقاطع الفيديو التي يبثها تنظيم «داعش» كلما استولى على بلدة في البادية السورية او العراقية. وليس خروجا على هذا الخط اعتبار «حزب الله» حصيلة حرب تموز (يوليو) 2006، التي تصادف هذه الايام ذكراها العاشرة، «انتصارا إلهياً»، فهذا ديدن كل سياسة تستثمر في الحرب مع الخارج لتسيطر على الداخل.
فشل اسرائيل في تحقيق الاهداف التي وضعتها في الايام الاولى للحرب من ضرب لقدرة الحزب على قصف اسرائيل واخراجه من جنوب لبنان واستعادة العسكريين الاسرائيليين الاسيرين، اضافة الى الخلاصات التي توصل اليها تقرير فينوغراد عن اوجه التقصير والاخفاقات العسكرية والاستخبارية، أضفت كلها صدقية على مقولة الانتصار الإلهي امام جمهور وجد نفسه فجأة في حرب ضروس استعرض فيها الاسرائيليون مهارتهم في تدمير البنى التحتية وقتل المدنيين الذين سقط منهم اكثر من الف ومئتي انسان.
والحال ان الحرب اسفرت عن ممارسات اجتماعية وسياسية هائلة الابعاد تشمل اغلاق مناطق بأسرها امام سلطة الدولة وظهور طبقة المنتصرين (بغض النظر عن الدور الحقيقي لأفراد الطبقة الجديدة في الوقائع الميدانية للحرب) الذين ظهرت عليهم علامات الثروة المفاجئة جراء كمية الاموال الضخمة التي ضختها ايران وغيرها بعد الحرب. سلوك طبقة المنتصرين التي لا تمل ولا تتعب من تذكير باقي خلق الله انها «حمت لبنان» من الوقوع تحت نير احتلال اسرائيلي جديد وانها دافعت عن شرف اللبنانيين وكرامتهم واعراضهم، لا تنقصه عجرفة الاثرياء الجدد وادعاءاتهم، من استخفاف بالمواطنين الآخرين والاعتداء اليومي على المجال العام ومساهمة لا تخفى في تعميم ثقافة ضحلة تتمثل في انحطاط اعلامي لا سابق له، ما ساهم في دفع البلاد الى اجواء هي اقرب الى قانون الغاب منه الى المجتمع الملتزم بالقوانين.
بيد أن هذه اقل مشكلات اللبنانيين مع الانتصار الذي لم يسعوا اليه ولم يجدوا في طلبه. ذلك أن لطبقة المنتصرين مشروعها العابر للحدود اللبنانية والمنتسب علنا الى مشروع آخر اقليمي لا يأخذ في الاعتبار «صغائر» السياسات الداخلية اللبنانية. فهذه مجرد ساحة تافهة لمخطط أكبر كثيرا. وسيان استطاع اللبنانيون تحمل عواقبه او انهار تماسكهم الهش، أصلا، جراء الأثقال الخرافية التي تُلقى على عاتقه.
والمنتصرون المستهزءون من تفاقم صعوبات الحياة اليومية لمواطنيهم المصابين بالفقر وخصوصا بمرض انسداد أفاق الآمال بأي نوع من العيش الكريم في هذا البلد الحزين، يشددون على أن من يعترض على التبعات الكارثية الماثلة «للانتصار الإلهي»، لا يعرفون للكرامة معنى وانهم اعتادوا العيش اذلاء على فتات الموائد الخليجية ومن عائدات الحانات والخمّارات، فيما هم، بانتصارهم، ابعدوا كأس الفوضى الخلاقة ومشروع الشرق الاوسط الجديد عن لبنان.
بكلمات ثانية، دائما يعود الكلام الى حيز الأخلاق التي يحتكرها طرف لا يرى في الآخرين غير عبيد شهواتهم وتطلبهم للحياة الفانية. يجري هذا في دولة تتفكك مؤسساتها واجهزتها وتتوقف خدماتها العامة واحدة بعد أخرى ويهان فيها المواطن واللاجئ والعامل الاجنبي سواء بسواء. لكن طبقة المنتصرين تتمتع وحدها، ولله الحمد، بالكرامة والعزة…