البيان الحكومي الذي صدر الاثنين الماضي معلناً تبرؤ لبنان الرسمي من عملية «المسيّرات الثلاث»، رافضاً القبول بأي عمل «خارج إطار مسؤولية الدولة والسياق الديبلوماسي الذي تجري المفاوضات في إطاره»، أحيا ذاكرة اللبنانيين، فاستحضروا بيان الرئيس الأسبق للحكومة فؤاد السنيورة، الذي «رفع مسؤولية حكومته» عن عملية اختطاف «حزب الله» جنديين إسرائيليين في تموز 2006 على الحدود الجنوبية. وعليه، ما هي الفوارق والمقاربات بين الحدثين؟
ايًا كانت الظروف التي قادت إلى عملية خطف العسكريين الاسرائيليين في 12 تموز 2006 على يد مجموعة من «حزب الله»، والتي شكّلت شرارة حرب الـ 33 يومًا وانتهت بصدور القرار1701، فإنّ ما رافق إطلاق المسيّرات الثلاث في اتجاه المنطقة الاقتصادية الخالصة لفلسطين المحتلة، يسمح بكثير من المقاربات والمفارقات بين الحدثين، بمعزل عن الأسباب التي أدت إلى كل منهما والظروف التي كانت تعيشها البلاد والمنطقة في تلك الفترة، وما تمرّ فيه اليوم على أكثر من مستوى داخلي واقليمي ودولي.
لا يمكن للمراقبين الذين يحاولون القراءة في الحدثين، ان يتجاهلوا كثيرًا مما يشكّل وجوه شبه بينهما في كثير من المعطيات والمؤشرات التي دلّت إليها المواقف الحكومية. فالبيان الذي أذاعه وزير الخارجية في حكومة تصريف الاعمال عبدالله بوحبيب بعد لقائه رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي الاثنين الماضي، استعار المنطق نفسه الذي استخدمه السنيورة بكل المعايير الحكومية والسياسية والديبلوماسية، بعد ان فجّرت عملية خطف العسكريين الاسرائيليين حربًا لم يكن يحتسبها أحد. حتى انّ الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله قال بعد أيام على عملية الخطف «لو كنت أعلم ما يمكن ان تؤدي إليه هذه العملية…»، وهي عبارة ما زالت تُستحضر في كثير من المناسبات، على الرغم من التوضيحات التي قدّمها السيد نصرالله لتفسيرها، وشرحه للظروف التي دفعته إلى مثل هذه «المعادلة».
وإن توسّع المراقبون في إجراء المقاربات بين الحدثين، والتركيز على نقاط الشبه وعكسها، فهم يتوقفون عند بعض الملاحظات والمؤشرات الدالة إلى هذه المقارنة بوجهيها، حيث تتلاقى في نقاط محدّدة وتختلف في أخرى على المستويات كافة في آن. وهو ما يدفع إلى الملاحظات الآتية على سبيل المثال لا الحصر.
على المستوى الداخلي، كانت البلاد لم تخرج بعد من تداعيات جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005، والمساعي المبذولة لتشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، على وقع مجموعة من التداعيات التي تركها صدور القرار 1559، الذي وضع لبنان على فالق دولي خطير بين محورين دوليين. وقد سمحت الظروف بتطور النفوذ الإيراني وتوسعه في لبنان، بعدما أخلت سوريا ساحته بطريقة دراماتيكية في 26 نيسان من العام 2005. وهو ما تمثل باستعراض القوة الذي قدّمه «حزب الله» في 8 آذار، والذي قاد لاحقًا إلى تظاهرة 14 آذار، وما تلاهما من فرز كبير بين اللبنانيين، وضعهم وجهًا لوجه، منقسمين بين مواقف رئيس الجمهورية العماد اميل لحود وقوى 8 آذار من جهة، وحكومة السنيورة وداعميها المحليين من قوى 14 آذار والدوليين، والذي تجلّى بالدعم الدولي والأممي لتشكيل المحكمة الخاصة بلبنان، في ظلّ إدارة اميركية كانت ترعى خطواته بنحو غير مسبوق.
وبمعزل عن الظروف التي حكمت تلك الفترة وما نعيشه اليوم، فقد التقت القراءات السياسية والديبلوماسية على تأكيد وجهات النظر المتقاربة، وأعاد التاريخ نفسه مرة أخرى، واضطرت الحكومة اللبنانية إلى التبرؤ من خطوة «حزب الله»، ليبقى الجدل مفتوحًا حول ما يمكن ان تؤدي اليه في المرحلة المقبلة. وكما أحرج لبنان يومها ودفع إلى إطلاق موقفه من عملية الخطف، وجد نفسه اليوم في الموقع عينه. ولما كانت البلاد قد دخلت يومها في المرحلة التي أعقبت الإعلان عن عملية 12 تموز مدار العمليات العسكرية التي بدأتها آلة الحرب الإسرائيلية بكل قدراتها البحرية والجوية والبرية، فهو اليوم واقع في خضم المفاوضات الجارية من اجل ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل برعاية اميركية وتسهيلات أممية، جعلت الحكومة اللبنانية محرجة إلى درجة لا يمكن ان تتبنّى فيها مثل هذه العملية التي عكستها المسيّرات الثلاث، وخصوصًا إن صدقت الروايات التي تتحدث عن تقدّم أحرزه الموفد الاميركي إلى المفاوضات عاموس هوكشتاين في إسرائيل، ومعها التسريبات التي تحدثت عن احتمال استئناف المفاوضات في الناقورة نهاية الشهر الجاري، بعد انتهاء جولة الرئيس الاميركي في المنطقة والخليج العربي، على أن يُنجز الاتفاق في ايلول المقبل.
وإلى وجوه الشبه هذه، تعتقد مراجع ديبلوماسية وسياسية، انّ هناك قراءات اخرى تدلّ إلى حجم كبير من الفوارق التي تجنّب لبنان اليوم على الأقل مظاهر الحرب التي شهدها عام 2006. فكل المعطيات تتحدث عن مصلحة اميركية واسرائيلية ودولية تتقدّم على مصلحة لبنان المنهك، بالحاجة إلى التهدئة، وأنّ اي مشروع حرب غير وارد في هذا التوقيت. فالأزمة العالمية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، دفع بالجهود الديبلوماسية إلى منع حصول ما يهدّد الأمن في اكثر من منطقة في العالم. فكيف بالنسبة إلى منطقة شرق المتوسط، التي باتت معبرًا إجباريًا لكل ما تحتاجه الدول الاوروبية ودول الجوار الروسي – الأوكراني من معابر، يشكّل مضيقا الدردنيل والبوسفور معبرًا إليها من البحر الأسود، لنقل ما يمكن نقله من المواد الغذائية والقمح والحبوب المختلفة من اوكرانيا إلى مختلف دول العالم.
وما يفيض عن هذه النظرية الاقتصادية والمعيشية، فقد ادّى قرب انتاج الغاز الطبيعي من الحقول الاسرائيلية في ايلول المقبل، إلى رفع كل اصابع التحذير والاتهام في وجه أي طرف يمكن ان يفكّر بالحرب في هذه المنطقة، ليس لسبب سوى الحاجة الماسة إلى استقرارها من اجل تموين الاوروبيين بحاجاتهم اليومية الملحّة من الغاز ولو بنسبة جزئية، تعوّض غياب مصادر الطاقة الروسية نتيجة التقنين والقطيعة والعقوبات التي تبودلت وفُرضت بين موسكو والدول الاوروبية، وهو أمر لا يمكن احد ان يتجاهله.
على هذه الخلفيات برزت نظريات اخرى تدل إلى فهم الجميع لهذه المعطيات، وانّ حرص «حزب الله» على استخدام المسيّرات الخالية من الاسلحة من الدلائل القوية إلى حصر رسائل العملية، بما يتلاءم وحاجة العالم للاستقرار في المنطقة. فلا يمكن احد ان يتجاهل انّ الرئيس الاميركي جو بايدن سيكون الأسبوع المقبل في المنطقة، وانّ الاميركيين، ومهما علت لهجة تهديداتهم، سيرضخون بدرجة متوقعة لضرورة الإسراع في توفير الجواب الاسرائيلي على الطروحات اللبنانية بالسرعة القصوى، للبت بالملف في اسرع وقت ممكن. وعندها قد لا تسقط مواعيد الاستحقاقات الإيجابية المنتظرة كاملة، وربما ستنصّب الجهود على حماية ما تحقق في المفاوضات، والسعي إلى انفراجات متوقعة، وهو ما يبدّد أي ربط اسود بين ما جرى في تموز 2022 وتموز 2006، ولا مجال للمقارنة التفصيلية في ما بينها كاملة.