كان كل شيء محسوباً: لم تخطئ المقاومة في تقدير حجم الرد الإسرائيلي وطبيعته، لكنها أساءت – كما تقول مصادرها – تقدير حجم الانخراط الأميركي وطبيعته في الحرب، وحجم الانصياع اللبناني الرسمي وطبيعته للأوامر الأميركية. فبعد أيام على عدوان تموز، كانت موازين القوى قد باتت واضحة للجانبين، وبدأ الإسرائيلي البحث عن سبل لوقف النار، وإذا بموقف الرئيس فؤاد السنيورة يأخذ منحاه التصاعدي: لا وقف لإطلاق النار (الإسرائيلي على لبنان) قبل رضوخ حزب الله وقبوله بسلّة حل شامل. كان كل يوم من أيام العدوان يلحق أذى هائلاً بهيبة إسرائيل وقدرتها الردعية والهجومية، ويتسبب بسقوط عشرات الشهداء اللبنانيين، وتنقلب موازين القوى لمصلحة لبنان. لكن رئيس الحكومة اللبنانية تحوّل في سراياه الحكومية إلى ناطق باسم جيش الاحتلال الاسرائيلي بدل أن يكون ناطقاً باسم الدولة اللبنانية، طارحاً ما لم يطرحه العدو نفسه ضمن «الحل الشامل»: تسليم الحزب كل أنواع السلاح الذي في حوزته، إيجاد حل نهائي للحدود والأسرى وكل القضايا العالقة التي تحول دون العودة الفورية إلى اتفاقية الهدنة، انتشار قوات متعددة الجنسية وفق الفصل السابع تتجاوز بصلاحياتها قوات اليونيفيل لتصادر سكاكين المطابخ من منازل الجنوبيين (سمّى السنيورة «العويسي» بالاسم، في إشارة إلى التعبير الجنوبيّ عن السكاكين).
لم يكن السنيورة وحيداً. كان معه، يومها، وزيرة الشؤون الاجتماعية نايلة معوض، ووزير العدل شارل رزق، ومستشاره السياسي وصلة وصله المباشرة مع الإدارة الأميركية الوزير السابق محمد شطح، ورئيس فرع المعلومات وسام الحسن الذي كان يصرّ على إضافة بند إلى سلة السنيورة يتعلق بالمحكمة الدولية… وخلفهم جميعاً ماكينة 14 آذار المعروفة.
كانت الحرب الميدانية المباشرة مع إسرائيل شيئاً، والعدوان الداخلي شيئاً آخر أكثر صعوبة وتعقيداً ومرارة، والأسوأ أنه لم يكن متوقعاً بالكامل. وإذا كان الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله قد سجل إلى «يوم الدين» موقف الرئيس ميشال عون يومها – بعيداً عن «هبل» مواقع التواصل الاجتماعي في «التمنين» – فإنّ المكانة التي أُعطيت للموقف العوني ما كانت لتكون نفسها لو لم تكن مواقف الأفرقاء الآخرين بهذا الشكل المخزي. وحتى بعد إعلان وقف إطلاق النار وصدور القرار 1701، أصرّ السنيورة على تفسيره الخاص للقرار. كانت تلك ساعات عصيبة واستثنائية وخيالية، صاحبها توتر هائل كاد يفجّر حرباً أهلية لو لم ينجح الرئيس نبيه بري في إلغاء جلسة مجلس الوزراء التي كان الوزير محمد فنيش سيحضرها ليسلّم رئيس الحكومة فيها عبارة مقتضبة جداً قبل أن يغادر: «إن التعاطي مع سلاح المقاومة بهذا الشكل دونه خوض اللجج وبذل المهج».
هذا الجانب من حرب تموز لم يكن محسوباً في حينه، لكنه لا يفارق حسابات المقاومة اليوم. ففي ظل المتغيرات الكبيرة في المنطقة، تبدو المقاومة مطمئنة جداً وواثقة بتوازن الردع، لكنها لا تسقط ولو لجزء من الثانية احتمال الحرب. الحرب مستحيلة وفق التقديرات الميدانية وأبعد ممّا يمكن للحسابات أن تتخيّل، لكنها موضع محاكاة يومية بالنسبة إلى الحزب في كل الميادين، بما في ذلك الميدان السياسي. يمكن أن تتكرر الحرب، لكن لا يمكن لما حصل في تلك الحرب أن يتكرر. ولا بدّ أن يكون موقف لبنان الرسمي، في أقل تقدير، متناغماً مع موقف المقاومة، لا مزايداً على إسرائيل. وهذا ما يحكم تعاطي الحزب مع الاستحقاقات السياسية. فبمعزل عن رأي الحزب وجمهوره في أداء الرئيس نجيب ميقاتي، لا يُسأل الحزب عن موقف ميقاتي من ترسيم الحدود البحرية أو البرية أو عمل المقاومة أو غيره إلا ويسمع الجواب الواثق نفسه: «ميقاتي ينسّق معنا، ولا يخطئ في هذه القضايا». وهو ما يوصل إلى الاستحقاق الرئاسي: في حرب تموز، كان إميل لحود رئيساً للجمهورية، لكنه لم يستطع وقف فؤاد السنيورة عند حدّه، فكان لا بد من زخم ميشال عون الشعبي للموازنة بين قدرات المقاومة والموقف اللبناني الرسمي والموقف الشعبي الذي عدّل عون في مزاجه. وهذا ما يقود الحزب إلى التمسك اليوم برئيس يحمي ظهر المقاومة في الداخل اللبناني من المزايدات الرسمية على اسرائيل، وخصوصاً أن رئيس الجمهورية هو الناطق الرسمي باسم الدولة ويحصر الدستور به توقيع المعاهدات الدولية، وهو الممر الإجباري لتكليف رئيس للحكومة والتوقيع على التشكيلة الحكومية. لكن لا يكفي مبدأ الرئيس «الموثوق به». إذ لا بد أن يتمتع هذا الرئيس بحاضنة شعبية مسيحية لا تزال بالنسبة إلى حزب الله هي التيار الوطني الحر. من هنا، تتحول مقاربة الاستحقاق الرئاسي من بند ثانوي في حسابات الحزب بالنسبة إلى كثيرين إلى بند أساسي جداً يمثّل جزءاً لا يتجزّأ من الحسابات الاستباقية، والاتّعاظ من دروس التجربة السابقة، مع العلم أن مقاربات الحزب، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بالحرب مع إسرائيل، تنطلق من أخذ كل الاحتمالات في الحسبان. إذ لا يمكن التسليم بعدم وجود سيناريو حرب اليوم، ويمكن أن يتغيّر الوضع ليجد الحزب نفسه في مواجهة تحديات جديدة – قديمة مع رئيس جمهورية مماثل لميشال سليمان. من هنا، يُفهم أكثر موقف الحزب: يريد سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، لكنه لا يريده «رئيساً مفروضاً»، أو رئيساً شاء التيار الوطني الحر أو لم يشأ، بل يصرّ على التفاهم مع التيار الوطني الحر في شأنه. لا يريد رئيس جمهورية فقط، بل رئيس جمهورية مع حاضنة شعبية.
في تموز، لم يكن خطر الداخل أكبر من خطر الخارج، لكنه مثّل جزءاً أساسياً من العدّة القتالية لهذا الخارج. وإذا كانت الآلة الاسرائيلية وسيلة القتل المباشر يومها، فإنّ الموقف الملتبس لحكومة السنيورة يتحمّل مسؤولية مباشرة عن إطالة أمد العدوان وتضاعف عدد الشهداء. لم يكن ما فعله السنيورة اختلافاً في الرأي أو موقفاً سياسياً أو وجهة نظر أو سوء إدارة. وهو ما دفع الحزب إلى الالتفات بعيد حرب تموز إلى أهمية السلطة السياسية للحؤول دون إيصاله مجدداً إلى شفير الحرب الأهلية.