فتحت السيناريوهات التي ترافق الحرب السورية جدولة للأحداث العسكرية بعدما تعثرت كلّ الخطوات الهادفة الى الحلول السلمية لمصلحة جولات من العنف تتوزع فيها السيطرة للأطراف بنحو غير ثابت. فأظهرت العمليات العسكرية أنّ تموز كان للنظام وحلفائه وتحوّل آب للمعارضة فيما يبدو أنّ أيلول سيكون للأكراد والأتراك معاً. فكيف تمّ التوصل الى هذه المعادلة؟
توقفت مراجع دبلوماسية بكثير من الإهتمام امام العملية العسكرية التركية التي انطلقت من اراضيها تحت عنوان «درع الفرات» في اتجاه مدينة جرابلس السورية لـ «تطهيرها» من «داعش» بطريقة تكفل لها قطع الطريق سريعاً على القوات الكردية و«قوات سوريا الديموقراطية» المدعومتين أميركياً من الوصول اليها بعد سيطرتهما على مدينة منبج الإستراتيجية على الحدود السورية ـ التركية ووضع يدهما على مدينة الحسكة منعاً لوصولها الى شرق مجرى نهر الفرات| بأيّ ثمن.
وتقول المصادر الديبلوماسية التي تقرأ في جغرافية المنطقة إنّ أمام القوات الكردية وحلفائها عقبات كثيرة عسكرية وجغرافية تحول دون وصولها الى جرابلس ذلك أنّ عليها أن تزيح «داعش» من مناطق تمتد لعشرات الكيلومترات في موازاة الحدود مع تركيا قبل أن تصل اليها، وأنّ السباق الى السيطرة بين القوات التركية وحلفائها من جهة والكردية وحلفائها من جهة أخرى محسوم للأولى جغرافياً وعسكرياً وميدانياً وسياسياً.
وبغض نظر روسي وإيراني واضح وصريح، سمحت القوات التركية لقوات من «الجيش السوري الحر» بالإنتقال من شمال شرق سوريا الى المنطقة الفاصلة بين الحدود التركية وجرابلس من بوابة «قرقيش» والتي وجب السيطرة عليها قبل الوصول الى جرابلس لتشارك في العمليات العسكرية التي ستظلّلها أسلحة الجو والبر التركية علناً وبتفاهم بات واضحاً بين أنقرة من جهة وكلٍّ من طهران وموسكو من جهة أخرى.
فحصدت تركيا بذلك ما لم تنله يوماً من حلفائها الأميركيين والحلف الدولي وهي التي كانت تنادي بمنطقة عازلة تمنع تمدّد القوات الكردية الى كلّ الشمال السوري المحاذي لحدودها وخلق منطقة آمنة للنازحين السوريين.
على هذه الخلفيات، تعترف المصادر الديبلوماسية أنّ قراءتها للعمليات العسكرية المتبادَلة في سوريا قد اكتملت قياساً على مجرى الأحداث فكان شهر تموز موعداً مع الإنتصارات التي حققها الجيش السوري النظامي وحلفاؤه الإيرانيون وحزب الله والروس ليتحوّل آب مسرَحاً لإنتصارات المعارضة السورية التي نجحت في فكّ الحصار على معاقلها في حلب لتنتقل الأحداث في ما بعد الى مناطق الأكراد وصولاً الى التوغل التركي في الشمال السوري.
وتعزّز المصادر الديبلوماسية قراءتها للتطورات باستعادة شريط الأحداث العسكرية منذ بداية الصيف على النحو الآتي:
ففي أوائل تموز انطلقت العمليات العسكرية التي خاضها الجيش السوري مدعوماً بحلفائه الإيرانيين وحزب الله بغية فرض الحصار على حلب كخطوة أولى لإستعادة السيطرة المفقودة عليها. فحققت ما حققته في خلال اسبوعين من الهجمات مدعومة بغطاء جوي روسي الى أن عزّزت سيطرتها في 28 تموز الماضي على حي بني زيد، الذي كان يعدّ أحد أهم وآخر معاقل «جبهة النصرة» في شمال المدينة تزامناً مع تشديد الحصار على معبر «الكاستيلو» الذي كان يشكل الشريان الأخير لقوات المعارضة بين أحيائها الحلبية والأراضي التركية.
وما إن انتهى تموز حتى استعادت المعارضة السورية المبادرة فتوحّدت فصائلها الواحدة والعشرون في «جيش الفتح» الذي قادته «النصرة» إثر إعلان انفصالها عن تنظيم «القاعدة» وبدأت العمليات العسكرية لفك الحصار عن الأحياء الشرقية في حلب.
وفيما كانت القوات السورية وحلفاؤها تنتظر الرد من بوابة «الكاستيلو» ومحيطها فاجأهم هجوم المعارضة لفتح الطريق الى أحيائها من بوابة مدرسة المدفعية ومعمل الباطون في الخاصرة الشرقية لقوات النظام ففكّت الحصار وأعادت وصل مناطقها بعضها ببعض في عملية امتدت من الأول من آب الى منتصفه واكتمل عندما سيطرت على معسكر للجيش السوري شمال غرب سوريا، وتمكّنت من قطع الطريق الدولي الاستراتيجي الذي يسلكه هذا الجيش ما بين دمشق وحلب كذلك قطعت طريق خناصر الواصل بين حلب ووسط وغرب سوريا وصولاً الى مدينة حماة.
وامام هذه الوقائع التي ميّزت آب بعد تموز، تنطلق القراءة لمستقبل العمليات العسكرية التي افتتحت بعملية «درع الفرات» لإستشراف ما سيشهده أيلول. فكلّ المؤشرات التي بدأت بوضع الأكراد يدهم على مدينة الحسكة بعد منبج وطرد قوات النظام وحلفائه من الأولى وداعش من الثانية وصولاً الى إسقاط جرابلس تؤكد أنّ أيلول محجوز من الآن للأكراد والأتراك بحيث سيكون شهر التقدّم بالنسبة اليهما وخطف الأنظار عما يجرى في حلب التي تراجع الإهتمام بها الى الدرجة الثانية.
وبما أنّ كلّ التقديرات العسكرية تقول إنّ العملية التركية الهادفة للسيطرة على جرابلس لن تكون صعبة، فلن يصل أيلول إلّا وتكون قد أنجزت. وهو امر لا يخضع للنقاش بالمعايير العسكرية والسياسية، فهذه العملية مضمونة بنتائجها ليبقى الحديث محصوراً بما سينجم عنها من ضحايا وخسائر.
وبناءً على ما تقدم ترسم المراجع الديبلوماسية خريطة الوضع في سوريا على النحو الآتي: ففي حلب ومحيطها لن يحسم بسرعة لا للنظام ولا للمعارضة ما يعني أنّ المواجهة الروسية – الأميركية ستبقى مستمرة فيما حسم الأمر لمشروع الدويلة الكردية في الحسكة والقامشلي وصولاً الى منبج لتبقى جرابلس في عهدة الأتراك والجيش السوري الحر. فنالت تركيا ما حلمت به وحرمته منها الولايات المتحدة على مدى السنوات الماضية.
ولذلك ستفتح هذه التطورات صفحات جديدة في مستقبل الوضع في سوريا على كثير من المجهول انتظاراً للتثبّت من حجم التفاهمات التركية ـ الروسية ـ الإيرانية وما ستنتهي اليه اللقاءآت الأميركية ـ الروسية على مستوى وزيري الخارجية في مرحلة يكتنفها التهديد بتحالفات جديدة قد تقلب كثيراً من الوقائع لتفتح الأزمة السورية على سيناريوهات أخرى ليس من السهل ترسيمها من الآن.