Site icon IMLebanon

العبور

 

كان الخبر عادياً جداً، غير مهم، يمكن الحياة أن تكمل دورانها الطبيعيّ معه أو من دونه، طالما أنه يتعلّق أساساً بذلك الصراع مع إسرائيل الذين نقول، لرفع العتب، إنه يعنينا، ونقحم روتينياً الإشارة إليه أسوة ببيانات جامعة الدول العربية. لكنه، في واقع الأمر، صراع بعيد عنا آلاف السنين الضوئية. نعرف عن المقاومة الفيتنامية للأميركيين والمقاومة الهندية للبريطانيين والمقاومة الليبية للإيطاليين والمقاومة الجزائرية للفرنسيين، بفضل السينما العالمية والروايات، أكثر مما نعرف عنه.

 

باستثناء قلة قليلة في المحيط الاجتماعي الشمالي، ثم في المحيط الجامعي في جبل لبنان، كانت الأكثرية غير مبالية من قريب أو بعيد بهذا الصراع. لمن ولد في أوائل الثمانينيات، لم تكن مجزرة قانا وهو في الثالثة عشرة سوى جريمة مروّعة أخرى شاهد خبرها من بعيد كسائر الأخبار، وتتابعت قبله وبعده البرامج التلفزيونية المعتادة أو لعبة كرة القدم أو الدروس المدرسية. حتى تحرير الجنوب عام 2000، وهو في السابعة عشرة، من عمره سيبدو حدثاً عادياً جداً يستوجب الفرح مع الفرحين ربما، من دون معرفة أو تقدير لما تطلّبه هذا التحرير من تضحيات وعمليات وبطولات، ومن دون معرفة ما يعنيه فعلاً تحرير الأرض واستعادتها أو العودة إليها. يمكن أن يُفتتح معتقل الخيام، ويفعل الإسرائيليون وعملاؤهم فيه كل ما فعلوه، ثم يُهجر على عجل ويجتاحه المحتفلون لتحرير أسراهم ويتحول إلى معلم سياحيّ، من دون أن يعرف كثيرون من أهل البلد بوجوده. «أهل البلد» كلمة كبيرة أساساً. لنا – أطفال عكار والمنية والضنية وطرابلس – كان مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، قبل تدميره عام 2007، مدينة ملاهٍ عملاقة يعمي بريق الذهب في واجهاتها الأنظار وتملأ روائح البهارات الأجواء و«تتعمشق» كراجات الدراجات الهوائية الموزّعة في أنحائها بالأحلام من عام إلى عام. ورغم اللهجة الفلسطينية المحبّبة وصور أبي عمار والخريطة التي تزيّن الواجهات، كان المخيم مرادفاً لغزل البنات الزهريّ والأصفر والسكاكر الملوّنة بشكل أحذية، وليس للقضية الفلسطينية. وإذا حصل أن ناقش مراهق في ما قصّته عليه والدته في الليلة الماضية من روايات غسان كنفاني، ستبدأ متاهة اليمين واليسار والحرب اللبنانية، ويصبح تحديد الموقف من القضية الفلسطينية نفسها رهن الوقوف على خاطر «تانت بديعة» و«عمو يوسف»، وغيرهما ممن قضى أبناؤهم في الحرب. وإذا ما استطال النقاش سيكون «البيت الصامد» في الجنوب شأناً جنوبياً خاصاً، مثل الفقر والحرمان في الهرمل وعكار، أو السياحة في جبل لبنان، يمكن أن تتحمّس لهم أو تحبهم لكن لا مكان للانتماء. لعل «البلد» كلمة كبيرة. يظن البعض أنه أعلم من غيره بمعنى الوطن والمواطنية، لكنّ الجميع سواسية.

 

فهم كيفية تفكير بعض العقول بهذا الشأن أو غيره رهن استيعاب ما خُزِّنَ فيها طوال سنوات من أفكار، تماماً كما أن فهم مشاعر البعض اليوم تجاه أيّ قضية رهن استيعاب ما تراكم في مشاعر هؤلاء تجاه هذه القضية خلال سنوات. الأفكار في عقل من تحاوره غير الأفكار التي في عقلك. كانت فلسطين بعيدة، تفصل بينها وبين الحدود الجنوبية حرب أهلية وتناقضات وعقود من التعبئة. وكانت الحدود الجنوبية بعيدة أيضاً، في ظل ما تراكم في المشاعر والعقول من لا مبالاة وعدم اكتراث أو عدم انتماء لا إلى احتفالية العمل المقاوم ولا حتى الانتصار. لا أحد يُخيّر بين أن يكون في صف المنتصرين أو في صف المستسلمين، فيختار طواعية المنهزمين، أو يُخيّر بين المحتل والمقاوم، فيختار الاحتلال. يقول أحد الكُتاب إن ما من أحد يأتي من لا مكان، ومن المهم جداً تحديد المكان الثقافي الاجتماعي السياسي الاقتصادي الذي يأتي الإنسان منه لفهم مواقفه، من دون الوقوع في فخ التعميم أو الأحكام المسبقة. لكنّ كثيرين لا يفهمون أو يتفهّمون هذا كله في تعاطيهم بعضهم مع بعض. من وُلد عام 1983 مهجّراً من أرضه ورزقه وكبر على روايات عائلته عما فعلته إسرئيل وعملاؤها بهم، قبل أن يبدأ أشقاؤه وجيرانه بإخباره عن عمليات المقاومة بفخر هائل واعتزاز، لا يمكن أن يقارن بمن وُلد في عكار أو المنية أو الضنية أو طرابلس أو البترون أو زغرتا أو بشري (…) وكانت اهتماماته وأجندة مجتمعة مختلفة بالكامل. وحتى من وُلد وعاش في الجنوب يمكن أن يختلف بين بيت وآخر، أو قراءات وأخرى، أو مشاهدات وأخرى.

 

ثم تأتي حرب تموز. خبر كسائر الأخبار في الدقائق الأولى ثم يبدأ المسار الآخر: المشاعر الجديدة، الأصوات، تعداد الغارات هنا والصواريخ هناك، اهتزاز المبنى المتصدّع القديم في شارع لبنان في الأشرفية مرة تلو مرة، عشرات المرات في اليوم الواحد، جراء الغارات المتواصلة على الأحياء القريبة، الوقوف فوق أنقاض الرزق المجبول بالدماء والذكريات والتفاصيل الصغيرة في هذه الأحياء القريبة، ترى صورهم تحت الأنقاض وتفكر بصندوق الصور العائلية القديمة في منزلك القديم، الأشياء الصغيرة التي تهوى جميعها تتطاير مع الأشلاء، العودة اليومية إلى الشياح، الاقتراب الحذر من الضاحية، طريق الجنوب، سماع أشخاص كأنهم من كوكب آخر يبدون الاستعداد لتقديم هذا كله وأكثر في سبيل الانتصار، رواية أسطورية جديدة تتجاوز كل ما قرأتها من روايات، أبطالها من لحم ودم يُقتَلون أمامك، اختلاط المشاعر اليومي بين انتشال الجرحى والشهداء تارة والاحتفال بعرس أو خطبة أو مولود جديد طوراً، الرد على القصف بالقصف، أسماء الصواريخ، الروايات اليومية عما فعله أولئك الشباب بقوافل الميركافا، وعن أولئك المسنّين الذين رفضوا مغادرة منازلهم، انتظار إطلالته من يوم إلى آخر ليتوعّد العدو فيما دفق الصواريخ يتواصل، الركض إلى المنارة مع الراكضين من الحمرا لرؤية المدمرة الإسرائيلية تحترق في عرض البحر، رؤيتهم يوضّبون أشياءهم القليلة على عجل لتلبية نداء العودة إلى مبان وأحياء وقرى ومدن مدمّرة بالكامل. يمكن أن لا يعنيك الموضوع؛ في الأساس كل شيء ممكن. يمكن أن يستوقفك تقديم المنزل الشهيد تلو الآخر وقد لا يستوقفك الأمر. يمكن أن تراهم يستشهدون جيلاً بعد آخر في سبيل لبنانك وتواصل اعتبارهم غير لبنانيين أو أقل لبنانية منك. يمكن أن يعنيك دكّ الطيران الإسرائيليّ لمساحات من وطنك واستهدافه المدنيين وغير المدنيين والمقاومين، ويمكن أن لا يعنيك. خلافاً لما ورد أعلاه: كل شيء ممكن، يمكن أن تُخيّر بين أن تكون في صف المنتصرين أو في صف المستسلمين، فتختار طواعية المنهزمين. تُخير بين المعتدين والمقاومين، فتختار المعتدين.

 

كان لحجم العدوان الإسرائيليّ هذه المرة دور، وحجم المقاومة وتطور قدراتها الإعلامية المختلفة دور، والاختلاط الشعبي الذي أسهم تفاهم مار مخايل في ترسيخه دور؛ ثم يأتي مهرجان استقبال الأسرى في ملعب الراية لترى النصر أمامك وتحدد نهائياً أين تودّ أن تكون: مع حكومة السنيورة وكل ما سبقها وتخللها وتبعها من تآمر أو مع المقاومين، مع أولئك الذين يظهرون الاستعداد العملي – لا الكلاميّ – الدائم للتضحية بكل شيء أو أولئك الذين لا يريدون المغامرة بخسارة أي شيء من اللاشيء الذي يعتدّون به، مع الـ10452 كلم مربعاً التي كنت تحلم بها أو مع «زاروبة» حيّك ولجنة البناية التي تسكن فيها، مع الجغرافيا والتاريخ اللذين يحيطان ببلدك أو مع عدّة أفكار موتورة تثير الغرائز هنا وهناك. بعدها تغيّرت كل المعادلات: من ربح الحرب ربح الجمهورية التي يريدون تسليمها له أنقاضاً، ومن خسر عجز عن تأمين 3500 صوت لمرشحه في بيروت فيما حصدت لائحة الحزب أكثر من 35 ألف صوت. من لم يقتنع يومها بمن ربح الحرب ومن خسرها، فلا بدّ أن يقتنع اليوم.

ملاحظة: تعبر لكن دون أوهام، هنا أيضاً يوجد أشخاص كثر مشابهون بالمنطق لمن تركتهم خلفك، من يبحثون في عقلك عن أفكارهم بدل أفكارك، فيما تقيّد الطائفية عقولهم، ولا يعنيهم من الجغرافيا والتاريخ غير «زاروبة الحي» ولجنة البناية، وحالهم مع تفجير المرفأ أو انفجار خزانات المياه في عكار أو اقتتال باب التبانة وجبل محسن كحال غيرهم مع ما تعرّضت له الضاحية والهرمل والجنوب من إسرائيل والتكفيريين.

 

 

* غداً: حرب تموز وهاجس حزب الله الرئاسيّ