أمر العمليات واضح: بمجرد الإعلان الرسمي عن استشهاد عنصر في حزب الله بعملية إسرائيلية، تبدأ المجموعات الهجومية العمل المتفق عليه من دون انتظار قرار مركزي، قطعاً للطريق على أي وساطات، بحيث لا يمكن لإسرائيل التفكير ببضعة أيام قتالية تستهدف خلالها ما تريده من منشآت لحزب الله، قبل أن تستنفر ديبلوماسيتها لوقف إطلاق النار. أيّ «جولة» مقبلة تعني حرباً شاملة. ورغم بُعد هذه الحرب، وفق المعطيات الاستخباراتية الأمنية العسكرية السياسية، فإن القادة العسكريين في المقاومة يحلمون بها: هي اللحظة التي سيُسقط فيها الحزب أخيراً أسطورة سلاح الجو الإسرائيلي عبر الصواريخ الدقيقة، والتي ستتوجه فيها هذه الصواريخ إلى أهدافها المحددة وفق المكتب والكرسيّ في مراكز القرار الإسرائيليّ في تل أبيب، مرفقة بوابل من الصواريخ المتنوعة لتشتيت قدرات القبة الصاروخية. هي لحظة «طحن» الألوية العسكرية الإسرائيلية البرية تحت أنظار الكاميرات التي تمثل جزءاً لا يتجزأ من عدة قتال المقاومين. لحظة مراكمة الإصابات في حيفا وتل أبيب حتى تغطي الأنقاض الأحياء، تماماً كما حصل في الضاحية في حرب تموز. لحظة العبور المنتظر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة للسيطرة على كل ما في المستوطنات القريبة من بشر وحجر وثكنات وأسلحة.
كثيرون يعتقدون أن ما سبق مجرد أفكار. لكنها، في الواقع، كما يعرف الإسرائيليّ جيداً ويعترف، برامج عملية دخلت حيّز التنفيذ منذ سنوات، وهي موضع مناورات دورية. وفي حسابات الحزب أن الحرب المقبلة حرب عقول وتكنولوجيا وإرادات، يملك الحزب على مستوياتها الثلاثة ما لا يملكه الإسرائيليّ، إضافة إلى جنرالات متمرسين في إدارة الحروب، مقابل جنرالات عاجزين عن السيطرة على مخيم فلسطينيّ يبعد 118 كيلومتراً عن تل أبيب. وإذا كانت معادلة الجيش – الدولة قد ظلّلت إسرائيل منذ نشأتها، فإن الهدف الأساس في أي حرب مقبلة هو تثبيت قناعة عند الإسرائيليين بأن جيشهم غير قادر على حمايتهم. وهي لحظة يدرك الإسرائيليون فيها أن قدرات دولتهم الاستخباراتية العملاقة تقابلها من جهة الحزب قدرات استخباراتية عملاقة أيضاً تسمح له بالعمل الأمني المباشر خلف الحدود اللبنانية – الفلسطينية وفي مؤسسات أمنية حيوية جداً كالمرافئ والمطارات العسكرية والثكنات، علماً أن الغرف الأمنية في الحزب تسجل حركة الطائرات الحربية الإسرائيلية وقدراتها والطرق الأنسب للتعامل معها، ولم يعد الحزب ينتظر إعلام الإسرائيليين للروس مثلاً ليأخذ علماً كي تصله المعلومات لحظة بلحظة.
قبل 17 عاماً، التزم الطرفان بوقف إطلاق النار، لكن الحرب لم تتوقف ولو لثوانٍ معدودة. كان يفترض بالتكفيريين، مثلاً، أن ينهكوا الحزب ويستنزفوه في مستنقع كبير، وإذا به يخرج من تلك المعركة بجيش غير كلاسيكي (1) ضخم (2) ومحترف (3)، يستخدم في معاركه تكنولوجيا متقدمة جداً (4)، ولديه قدرات استخباراتية هائلة (5)، يصنع معظم أسلحته بنفسه (6) ولديه مخزون من الصواريخ لا تملكه معظم جيوش المنطقة (7)، مع إرادة قتالية استثنائية (8).
كان يفترض عزل الحزب وقطع كل ما وصله من علاقات في الداخل والخارج، وإذا به يحوّل الضاحية مع الفصائل الفلسطينية المختلفة إلى مركز عمليات لكل من مخيم جنين والضفة الغربية والمجموعات الشبابية المتحمسة في القدس. وهو ما تجهل إسرائيل بالكامل كيفية مواجهته أو الحدّ منه اليوم، بعدما فشلت كل ألاعيبها وضغوطها ووساطاتها مع الدول العربية المختلفة لإبعاد الفصائل الفلسطينية عن الحزب أو دسّ الدسائس بينها وبينه، مع العلم أن الارتياح في معادلة الردع سمح للحزب بإبلاغ إسرائيل أن استهداف أيّ مقاوم، لأيّ مجموعة انتمى ومهما كانت جنسيته، هو بمثابة اعتداء على الحزب مع كل ما يمثله ذلك من إعلان حرب. وهو ما يزيد من الإرباك الإسرائيلي في كيفية التعامل مع وحدة الساحات والإرادات هذه التي تشكل الضاحية مركزها الحيويّ والقدس غايتها، تحت أعين الإسرائيليين العاجزين وسمعهم.
بعد التحرير، ثبّت الحزب مكتسباته وراكم الاستعداد رغم إعصار 14 شباط في انتظار اللحظة المؤاتية في تموز 2006 ليثبت معادلة جديدة، ويراكم الاستعداد من جديد، رغم الأعاصير المختلفة، في انتظار اللحظة المؤاتية لتثبيت معادلة جديدة، في ظل انقسام داخلي إسرائيلي كبير وغير مسبوق يرفع أكثر فأكثر من حماسة الحزب، فيما تهرب إسرائيل من هذه اللحظة إلى الأمام. فبعد التبادل الأمني لرسائل أكثر من عادية، بدأت إسرائيل في قضم أجزاء إضافية من بلدة الغجر ليقابلها الحزب بنقطة أمنية متقدمة جداً باتت مركزاً للمقاومين يُعرف بالخيمتين، بدا مخزياً تراجع الإسرائيليين عن وعيدهم وتهديداتهم بشأنها. ثم أتت حادثة الحدود التي لم يكن بإمكان أي لبناني الاقتراب منها، حتى ولو كان شاباً متحمساً لا علاقة له بالمقاومة يريد استعراض شجاعته أمام أصدقائه، من دون أن تمطره إسرائيل بالرصاص أو تخطفه مع قطيعه إذا كان راعياً، وإذا بقنبلة صوتية تنفجر بالقرب من شباب المقاومة لا أكثر، في إعلان إضافي عن الهروب الإسرائيليّ إلى الأمام. وإذا كان الإسرائيليّ، مدعوماً من الأميركيّ وبعض الداخل اللبنانيّ، قد عاد إلى مبدأ الأرض مقابل السلام بعد سقوط مبدأ التهديد أو الحماية مقابل السلام الذي أطلقه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وهناك من يراهن اليوم على حل «القضايا العالقة» بين لبنان وإسرائيل بما يسمح بالعودة إلى اتفاقية الهدنة ووضع قضية السلاح على الطاولة اللبنانية من جديد، فإن الحزب أعدّ العدة السياسية اللازمة والحجة لمواجهة هذا الطرح عند نضوجه.
بعد 17 عاماً على حرب تموز، يمكن من يعرف بيئة الحزب أن يتعرف إلى شباب ولدوا قبل أو بعد أسابيع قليلة من تلك الحرب أو حتى خلالها، نشأ هؤلاء وكبروا في ذروة الحرب على الحزب والحصار والاستنزاف المفترض، لكنهم يجدون أنفسهم اليوم محاطين بمؤسسة دينية اجتماعية تربوية، اقتصادية، أمنية، إعلامية وسياسية لا يوجد في محيطهم الواسع ما يشبهها، يقودهم جنرالات فخورون متمرسون بإدارة الحروب وتطويع التكنولوجيا لخدمة أهدافهم، ولا يلهيهم كل الصخب الاستهلاكي – الافتراضي – الاجتماعي المحيط بهم من جميع الجهات عن هدفهم الأسمى اليوم: العبور.
مشكلة بعض الداخل اللبناني معهم أنه لا يعرفهم من قريب أو بعيد، ومشكلة الإسرائيليّ أنهم أكثر حماسة وثقة وإرادة ممن سبقهم، مع توق هائل لإثبات أنفسهم.