في الأيام الأخيرة، كثّف رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط من إطلالاته الإعلامية. ما يعني أنّ ثمة “موالاً” في ذهنه يحاول أن ينشده. فهو ليس من صنف السياسيين العاشقين للكاميرا “على الترويقة وكل دقيقة”، وليس من أولئك الذين يجرّون غصباً عنهم إلى أي موقف. لا يدلي إلا بما يريد أن يدلي به، وساعة ما يريد. وحين يفعلها، ثمة جهة معينة يتقصّد مخاطبتها. وعادة، لا يكون كلامه بالمطلق أو بالهواء أو عبثياً.
غير ذلك، يكتفي بتغريداته عبر موقع “تويتر”، الساخرة أحياناً، الهزلية أحياناً أخرى، ولكن معظمها يحمل رسائل مبطنة، مشفرّة أو مباشرة، وفق الحاجة… من دون أن يعني ذلك، أنّه ليس للرجل شطحاته وهفواته التي سرعان ما يعود عنها. ميزته أنّه يملك جرأة القول إنّه أخطأ، طالما أنّه مطمئن الى أنّ قاعدة المحاسبة والمساءلة غير محبّبة على قلوب ناسه ومريديه.
في هذه الجولة اختار وليد جنبلاط التصعيد. هذه المرة، وبعد الكثير من النأي بالنفس عن متراس الخصومة، صوّب بالمباشر على “حزب الله” وعلى النفوذ الإيراني لدرجة مقارنته مع النفوذ السوري واستخلاصه بأنّ الأخير كان يأخذ في الاعتبار خصوصيات القوى اللبنانية ويستمع إلى آرائها، على عكس الايرانيين!
قبيل ساعات من “اجتياح” الكونغرس الأميركي من قبل المحتجين المؤيدين للرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، كانت المنطقة تترقّب آخر “جرعات النار” التي سيصبّها الرئيس الذي يهمّ بمغادرة البيت الأبيض، في لحظة مفصلية من شأنها أن تفرض وقائع استثنائية على الرئيس المنتخب جو بايدن. ولكن مشهدية الهجوم غير المسبوق على مبنى الكابيتول ستجعل من الصعوبة، لا بل من الاستحالة، على ترامب أن يضرب بعد ضربة واحدة!
ومع ذلك، يتعاطى جنبلاط مع الأيام الأخيرة للرئيس المنتهية ولايته، بأنّها ذات طبيعة ضاغطة، فاصلة بين عهدين لن يشبها بعضهما البعض، قد لا يتمّما بهدوء اجراءات التسليم والتسلّم، ويُخشى أن يكون لبنان واحدة من ساحات تصفية حساب اللحظات الأخيرة. إلى الآن، لا يزال الزعيم الدرزي مقتنعاً أنّ المنطقة قد لا تسلم من تأثير قرارات استثنائية قد لا يتردد دونالد ترامب في اتخاذها، فيما الوضع اللبناني يغرق في أزماته المالية والصحية والاجتماعية، وقد يدفع انزلاقه الى التوتر الأمني إلى الموت المحتّم. من بين تشققات هذا العنوان الكبير وما قد يحمله من تداعيات على التوازنات الداخلية، تسلل الزعيم الدرزي الى الوحول اللبنانية. وفق الاشتراكيين، فإنّ جردة الأشهر الأخيرة تظهر أنّ لبنان ضيّع أكثر من فرصة، بدءاً بمحاولة السفير مصطفى أديب تأليف حكومة ومن بعده رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري وذلك بدعم من الادارة الفرنسية تحت عنوان مبادرتها الاصلاحية. لكن القوى اللبنانية أمعنت في خلافاتها وصراعاتها لتضيّع آخر الفرص المتاحة، وتترك الوضع أسير انتظار، لا تعرف مُهله الزمنية، لكن نهايته باتت معروفة ومحسومة!
وما لا يقوله الاشتراكيون، يظهره الرسم البياني لمواقف وليد جنبلاط من حكومة سعد الحريري العالقة في خرم ابرة متغيرات المنطقة. أبى أن يعطي رئيس “تيار المستقبل” أصوات كتلته إلّا بعد تعهد من رئيس الحكومة المكلف بالحصول على حقيبتين وازنتين. وحين ارتبك الأخير بين حسابات الحقل وحسابات البيدر، لم يوفّره جنبلاط من انتقاداته ما استدعى ردّاً مباشراً من جانب الحريريين.
ولو أنّ الاشتراكيين كانوا في كل جولة يؤكدون أنّهم لن يعاملوا سعد الحريري بأقل ما عاملوا حسان دياب، في ما لو قرروا البقاء خارج الحكومة، بمعنى الامتناع عن سياسة المعارضة الشرسة. إلا أنّ جنبلاط قرر أخيراً احراج الحريري و”دفشه” إلى الانسحاب والاعتذار. نصحه بالمباشر: “فليحكموا هم بالواجهة التيار الوطني الحر ومن الخلف حزب الله”.
وفق الاشتراكيين، هذه ليست دعوة للهروب من المسؤولية وانما للمشاركة الفعلية، مشيرين إلى أنّ جنبلاط مقتنع بمحاولة الحريري تأليف حكومة والبحث في كيفية انقاذ الوضع والمعالجة، ولكن لا بدّ للقوى المتحكمة بالبلد أن تترك مكاناً للشراكة مع بقية القوى. اذ لا يمكن ترك المشاورات الحكومية أسيرة رغبة “التيار الوطني الحر” بالحصول على الثلث المعطل وما يريده من وزارات وحقائب، فيما الوضع الأمني صار على كف عفريت. ويؤكدون أنّ صرخة رئيس الحزب لا تستهدف إلغاء أحد، ولكن قاعدة استحالة الإلغاء تسري على الجميع من دون استثناء. وبالتالي، حين يطلب الأمين العام لـ”حزب الله” من القوى السياسية تحمّل مسؤوليتها وعدم الهروب فهذا يستدعي السماح لها بالمشاركة في القرار لا أن تكون مجرد “كمالة عدد”.
ويشيرون إلى أنّ صرخة جنبلاط لا تعني المطالبة بتكريس التعاون على مستوى الحكومة فقط، وإنما تستهدف الشراكة الكاملة، أي على مستوى البرنامج العام للخروج من الأزمة، والذي يبدأ من الحكومة.. وما بعدها. وقد تكون هذه هي النقطة التي أراد جنبلاط التصويب عليها من كل حديثه التصعيدي.