لن يجدَ زعيمُ المختارة وليد جنبلاط مَن يتفوّق عليه وضوحاً حين يختار المُباح في كلامه. كما لن يجدَ مَن يتجاوزه حنكةً حين يقرّر استخدام لعبة الألغاز والأحجيات. مذ أن دخل الرجل العالم الافتراضي من بوابة التغريد وهو يبرع في «التنقير» على خصومه وملاعبتهم على حبال المفردات والصور التشبيهيّة والأقوال المأثورة.
ولكن حين يخرج نفسُه من متاهة الزواريب الكلامية، فلن يتردّد في التصويب على مَن يخاصمه بوابل من الانتقادات والأوصاف أو قول الأمور كما هي، معرّاة من آخر ورقة توت… بلا لفّ أو دوران.
هكذا بدا بعد لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون، ورقةً مكشوفة. لا داعي لمذكرات بحث وتحرّ للاستفسار عما دار في لقاءٍ، نادراً ما يحصل بين الرجلين. فقد استعرض الضيف جدولَ أعمال النقاش كما هو، ولم يحتج الى كثير من مساحيق التجميل لكي يرمّم ما أفسدته الانتخابات، ونتائجها.
فعلياً، لم يتردّد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في الإشارة إلى أنّ اللقاء مع رئيس الجمهورية، وإن حصل بمبادرة من الأخير، لم يتطرّق الى الوضع الحكومي المأزوم بفعل إصرار رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل على توزير رئيس «الحزب الديموقراطي اللبناني»، طلال ارسلان أو مَن يمثله، مقابل تمسّك «الحزب التقدمي الاشتراكي» بثلاثيّته الوزارية وما تحتضنه من «فيتو» ميثاقي، بدا أشبه بورقة «لوتو» لن يكون جنبلاط في وارد التخلّي عنها في هذه اللحظة بالذات المقبلة على كثير من القرارات الكبيرة والتحدّيات الصعبة.
تحدّث سيدُ القصر وضيفُه في كل شيء إلّا في عقد الخشبة الحكومية، في نسختها الدرزية. تحدّثا عن الإنماء، فرص العمل، البطالة، المدارس والجامعات، وحتى عن القطاع المهني!
لعلّه سيناريو مشابه، وفق أحد المعنيين، لذلك الذي جمع رئيس الجمهورية مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع. يومها استعرض الرجلان التفاهم الثنائي بكل طلعاته ونزلاته. شدّدا على أهميته وتعاهدا على إصلاح علّاته التي اقترفها الحليفان، كل وفق مصلحته. ولكن حين بلغ قطار الحديث، محطة الحكومة والخلاف حول الحصص المسيحية، نفض المضيف يديه، نائياً بنفسه عن الثنايا ولعبة الأرقام، تاركاً لرئيس التيّار الوطني الحرّ الوزير جبران باسيل، مهمّة العقد والربط.
لا شك في أنّ رئيس الجمهورية لن يبلغ الزعيم الدرزي، أنه «أخطأ في العنوان»، وأنّ «الآمر والناهي» في الملف الحكومي هو رئيس «التيار الوطني الحر» الذي اشتكى منه رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بلا تسميته… لكنّ عون تصرّف على هذا الأساس.
قد يعود السبب وفق المطّلعين، إلى تعمّد الاشتراكيين «محاصرة» اللقاء المنتظر قبل ساعات من انعقاده، بسيل من المواقف التي تعبّر عن تمسكهم بالثلاثية الوزارية، وعدم الانصياع لمحاولات الترغيب التي قد تمارَس في حقهم، فبدا لرئيس الجمهورية أنّ أيَّ محاولة للبحث عن صيغة وسطية تبقي ارسلان على طاولة مجلس وزراء محكومٍ مسبقاً عليها بالفشل، ولن تلقى آذاناً صاغية، فعدل عن طرحها.
من الواضح أنّ رئيس الجمهورية يحاول تهدئة الأجواء المحيطة بمشاورات التأليف وتمهيد الطريق أمام صياغات تساهم في فكفكة العقد المستعصية، لكنه يتجنّب الدخول طرفاً مع فريق ضدّ آخر. ولا شكّ في أنّ الجلسة مع ضيفه الاشتراكي ستساهم في وقف أعمال «الحرب الافتراضية» التي اندلعت بين «الجبهة العونية» و»الجبهة الجنبلاطية» على خلفية تغريدة «البيك» العابرة للقارات. لكن غير ذلك، لا يزال سمكاً في البحر.
هكذا، خرج جنبلاط من قصر بعبدا كما دخله. متمسّك بـ»لا» رافضة أيّ حلّ قد يحجب عنه ورقته الرابحة في الحكومة العتيدة أي «الفيتو» الميثاقي، مهما كانت المغريات. هو أكثر مَن يعرف حدود لعبته وسقوفه العالية حين يقرّر رفعها خصوصاً حين تبدو موازين القوى «طابشة» بقوة.
يكفي رصد هدوء صديقه في عين التينة، أي رئيس مجلس النواب نبيه بري، وحيادية حزب الله من الاشتباك الحاصل حول المقعد الدرزي الثالث، لكي يُفهم إصرار رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» على موقفه ورفضه تقديم أيّ تنازل في سبيل تأليف الحكومة، تاركاً مهمة «تقليع الشوك» لطابخيها.