كما قلّد أهل الجبل، قبل أربعين عاماً، وليد جنبلاط الزعامة، في لحظة متغيّرات فرضها القدر، وقف «بيك المختارة» أمام دارة العائلة التراثيّة، في ذكرى اغتيال والده، وتحديداً في 17 آذار 2017، ليضع «الكوفيّة» على كتفَي تيمور.
إختار الرجل تاريخاً محفوراً في وجدان مريديه، يرتبط بالدم والنار والحرب والمصير والزّعامة والجبل والعائلة والمستقبل، ليرفع نجله إلى مرتبة وريث… مع وقف التنفيذ.
إستعاد جنبلاط لحظات انتقال العباءة إلى كتفَيه. رفع آنذاك بنو معروف شعار «ادفنوا موتاكم وانهضوا»، ليذكّر ناسه أنّه لم ينتظر لعبة القدر ليسلّم الراية لخليفته، لا بل فعلها بمبادرة منه مختصراً الطريق لـ»تزعيم» نجله على أيّامه. فينهل الأخير من معجم تجربة الأب وموسوعة أفكاره ومنظومة علاقاته العابرة للحدود، ويتتلمذ على يَديه.
منذ عودة تيمور إلى بيروت في العام 2010، ليتدرّج في فنّ السياسة وألاعيبها في «دار الزعامة الجنبلاطيّة»، وهو يحاول خطّ مسيرته بهدوء وترو بعيداً عن الضوضاء، كما شخصيته.
وحين تولى الشاب المقعد النيابيّ خلفاً لوالده، بَدا الانتقال سلساً مدعوماً ببعض الخبرة المكتسبة بفعل الاحتكاك مع الناس والعمل على فهم المزاج الدرزي العام وخصوصية الطائفة وتحدّياتها. لكنّ التسليم والتسلّم لم يَخل من صعوبات اضطر جنبلاط الأب أن يتولى تذليلها بنفسه.
ومع ذلك بَدا فارق الـ2000 صوت وأكثر بين الفائز الدرزيّ الأول في دائرة الشوف عاليه، أكرم شهيب (14088 صوتاً تفضيليّاً)، والفائز الثاني تميور جنبلاط (11478 صوتاً)، أكثر من معبّر في دفتر حسابات أهل الجبل.
بعد أكثر من 3 أشهر على اكتساب تيمور لقب «سعادة النائب»، لا يزال وليد جنبلاط على حاله من الاهتمامات السياسية وفي يومياته. أن يجلس نجله على كرسي الجنبلاطييّن في البرلمان، لن يغيّر كثيراً في المشهد العام.
النائب الجديد يتولى أصلاً ومنذ أكثر من 4 سنوات مهمّة اللقاءات الشعبية: الثلثاء في كليمنصو والسبت في المختارة. أزاح والده هذا العبء عن كتفيْه مع اتخاذه قرار البدء بمعاملات «انتقال التِركة» السياسية.
لا تقدّم الحصانة النيابيّة على حياة زعيم المختارة ولا تؤخّر، وليست درعه الواقي. العكس تماماً. موجباتها الشعبية من أجندة لقاءات ومراجعات، تقضم من وقته الذي صار يميل إلى تنكيهه بالكثير من المرطّبات الترفيهية.
ولكن أسلوب الرجل غير الكلاسيكيّ في التعاطي مع الشأن العام يساعده في استثمار كل دقيقة من وقته الخاص، في تمرير رسائله السياسية «السوريالية». هو الأسلوب المحبّب إلى قلبه حين يبتعد عن التصويب المباشر فينبش الصور التعبيرية المزخرفة ويحمّلها الفضاء التويتريّ ليثير عاصفة من التساؤلات حول حقيقة مقصده.
مثلاً، من كان ليصدّق أنّ الرجل الغارق في «جنّة» النروج، كما وصفها، في إجازته مع العائلة لمناسبة عيد الفطر، قد يخرق سكينته بتغريدة أقامت الدنيا ولم تقعدها في 14 حزيران الماضي عن «العهد الفاشل»؟ وحده جنبلاط قد يفعلها.
كما «ارتاح» الأب من «واجب» ترؤس «اللقاء الديموقراطيّ» الذي أحيل إلى نجله، سواء الاجتماعات الداخلية أم في المقار الرسمية. بات تيمور في الواجهة، ولكن في العمق لا يزال وليد جنبلاط هو العقل المفكر والقلب النابض للحيثيّة الجنبلاطيّة، النيابيّة، والوزاريّة، والشعبيّة.
مهمة أكثر ثقلاً ألقيت على عاتق «الوريث الشرعي»: اللقاءات الخارجية. سبق لتيمور أن شهد على بعض «التجارب» من خلال مرافقة والده في لقاءات تَخطّت الحدود وتحديداً في السعودية، وها هو اليوم يتصدّر الوفد الاشتراكيّ إلى موسكو.
ليست المرة الأولى التي يقصد فيها العاصمة الروسية، ولكنّ مقتضيات «الدعك» السياسي وتزخيم الثقة بالنفس وتفعيل العلاقات الشخصية، تقضي أن يحصل القطع بين الأب والابن.
أما حدود الفصل فتقف هنا. «بيك المختارة» لا يجلس جانباً. لقاءاته السياسية والدبلوماسية تحافظ على الوتيرة نفسها. حتى رحلاته السياحيّة لم تحتل مساحة أكبر من روزنامته. وفي هذه الأيّام يمنح حيّزاً واسعاً من وقته واهتماماته للشؤون الإنمائية في الجبل حيث شكّلَ لجان عمل متخصّصة لدراسة وتنفيذ مشاريع ذات طابع إنمائيّ.
رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي لا تزال عند وليد جنبلاط. في العام 2011 بشّر الرئيس بقدوم «ربيع التقدمي» على حصان الثورات المشتعلة في المنطقة تحت مُسمّى «الربيع العربي»، مؤكداً التنحّي عن رئاسة الحزب والعودة عضواً عادياً في صفوفه، واعداً بالدعوة إلى مؤتمر عام انتخابيّ خلال عام.
من يعرفه عن كثب يجزم أنّ الرجل لم يطلق قنبلته عن عبث. ناقش العديد من الصيغ التنظيمية لقيادة جماعية قد تكون بديلة عن رئاسته، وتحصّن الحزب من خضات المرحلة الانتقالية، ولكن من دون جدوى.
سرعان ما همدت رياح التغيير، ووئدت الفكرة في مهدها. فيما الظروف الاستثنئاية التي تمرّ بها المنطقة راهناً، وتضع الدروز في عين عاصفة المتغيّرات الحاصلة، تحول دون ممارسة الانتقال الديموقراطي في رئاسة الحزب. لا مؤشرات تلوح في الأفق قد تَشي بتغيير ما. وجنبلاط لا يزال الرقم الأول في الحزب.
يمارس مهامه بشكل مكثّف. اجتماعات دورية لمجلس القيادة مرّة أو مرتين في الشهر، واجتماعات داخلية تنظيميّة. حتى يوميّاته لم تتغيّر أو تتبدّل. الكثير من الصحف الورقية من حوله، فيما هو مدمن على هوايته العتيقة: قصقصة المقالات التي تلفت نظره لتوثيقها وتجميعها قبل إرسالها إلى مكتبة بعقلين الوطنية.
يكاد يكون الوحيد الذي يجمع بين جيلَي الإعلام، التقليديّ والحديث. «آي باد» إلى جانبه، يعبق بتغريدات مثيرة للجدل، وقراءات عابرة للحدود، يرفض حصرها بذهنه، حيث يحرص على توزيع المقالات عبر بريده الالكتروني إلى مجموعة من الأصدقاء والمعارف. وفي كثير من الأحيان، يغلّب الفيديوهات القصيرة على محتوى رسائلة. وفي الأشهر الأخيرة انضمّ تطبيق «الواتساب» إلى قائمة «حمامه الالكترونيّ الزاجل».
في السياسة، عينه على دروز سوريا في ضوء الحراك الحاصل على بقعتهم، وتطورات الميدان المتسارعة وما يمكن للحل السياسي أن يستقرّ عليه من صيغة حكم. فيما عقله يحاول مسابقة الزمن لمعرفة أي دور سيكون لدروز لبنان بعد هدوء لغة السلاح في المنطقة.
لذا، لا يزال الرجل في قلب القرار الجنبلاطي، لا بل صانع تفاصيله، وما ابتعاده عن كاميرات ساحة النجمة إلّا من باب التخفيف من الأعباء اليومية التي يمكن لنجله أن يقوم بها… على طريق زعامة تاريخية، تحتاج أكثر من «معلّم» و»دروس خصوصية».